أثبتت التجربة الإنسانية أن منظمات المجتمع المدني الفعّالة والمستقلة تلعب أدواراً ملموسةً في دفع عمليات التحوّل السياسي الى الأمام بأقل قدرٍ ممكن ٍمن الخسائر والارتدادات، وتحتل المنظمات العمالية صدارة المجتمع المدني، في هذا المجال، بسبب قوتها التمثيلية من حيث اتساع عضويتها وتمثيلها مصالح مئات آلاف العاملين بأجر في مجتمعاتها.
ولأن عمليات التحول السياسي والاجتماعي والاقتصادي مستمرة، وهي سمة ملازمة لوجود المجتمعات الحية وتعكس صراعات المصالح بين مكونات المجتمع المختلفة، لذلك فإن وجود قوى اجتماعية منظمة ووازنة يشكل ضمانة أساسية لعدم الانجرار إلى عمليات تحول سياسي باستخدام العنف، وبقدْر ما تكون المجتمعات منظمّة على أسس مدنية تأتي عمليات التحول السياسي فيها سلسة ومتدرجة، وغالباً ما يكون العقل الجمعي المدني راشداً في تفكيره وبعيداً عن المغامرة.
وتعود أهمية المنظمات العمالية كونها إحدى أهم ضمانات حفظ التوازنات بين المكونات المختلفة لأي مجتمع، بحيث أنها تمثل مصالح العاملين مقابل منظمات تمثل مصالح أصحاب العمل. لذا فإن وجود منظمات مستقلة ووازنة تمثل مصالح هذه الأطراف يشكل صمام الأمان لحفظ التوازن والاستقرار، حيث يمارس فيها كل طرف حقة في الدفاع عن مصالح من يمثلهم باستخدام وسائل سلمية للصراع.
إن حرمان المجتمع ومكوناته المختلفة من تنظيم نفسها على أسس مدنية سيؤدي – بالضرورة- إلى استخدام أساليب غير سلمية في عمليات التحول المختلفة التي تشهدها هذه المجتمعات. وهذا هو الخطأ الذي ارتكبته غالبية الحكومات غير الديمقراطية في العالم، حيث قامت بحرمان مجتمعاتها من ممارسة حقها في تنظيم نفسها بالشكل الذي ترتأيه، وهو ما قاد إلى حدوث أعمال عنف متفاوتة المستوى فيها.
وتمثلت الخطيئة التي ارتكبتها حكومات غير ديمقراطية أخرى في تمكين أصحاب الأعمال من تنظيم أنفسهم، وحرمان العاملين من ذلك، فتغولت منظمات أصحاب العمل ومن يمثلها على مصالح العاملين، الذين يحرمون من حق تنظيم أنفسهم، أو لديهم منظمات عمالية هشةً ومسيطر عليها من قبل هذه الحكومات وأجهزتها المختلفة، ما أنتج حالة من عدم الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي بسبب حدة التفاوتات في الدخل وأنماط الحياة وجودتها بين الغالبية الكبيرة من العاملين من جهة وكبار أصحاب الأعمال من جهة أخرى.
تفاقم التفاوت الاجتماعي والاقتصادي هو المحرك الأساسي لعمليات التغيير، التي لا تستطيع أن توقفها أية حكومة مهما كانت أدواتها قوية ونافذة. وكل محاولات الحفاظ على الاستقرار بأبعاده المختلفة في المجتمعات التي يتسع فيها التفاوت وعدم المساواة، ما هي إلا عمليات تأجيل لحدوث الانفجار الاجتماعي الذي يتحول حتماً إلى انفجار سياسي. وكلما طال تأجيل التغيير ازدادت حدة الانفجار وما حالات الاستقرار التي تشهدها المجتمعات التي تعاني من مستويات تفاوت كبيرة سوى حالات استقرار مؤقتة لن تدوم طويلاً.
مؤشرات عديدة تنبّه إلى مستويات التفاوت الاجتماعي العالية، في الأردن، ومن أهمها عدم توازن علاقات العمل، التي تُعبّر الاحتجاجات العمالية عنها بكثافة، ففاقت خلال الأعوام الثلاثة الماضية 2500 احتجاجاً. يضاف إلى ذلك انخفاض معدلات الأجور، إذ أن ما يقارب 60 % من العاملين بأجر في الأردن يحصلون على أجور شهرية تبلغ 400 ديناراً فما دون، وهي أقل من مستوى خط الفقر المطلق.
لا يمكن استمرار التحولات الاجتماعية بشكل سلس وطبيعي في ظل اختلالات متنامية في التوازنات الاجتماعية ومنها توازنات سوق العمل، فكان الأمر الحتمي في الحالة الأردنية أن تتكثف هذه الاحتجاجات وتتزايد بشكل مضطرد، طالما لا يتم حل جذر وأصل المشكلة التي أدت إلى حدوثها، ألا وهي التفاوت الاجتماعي وغياب المساواة.
التغيير الاجتماعي وبالتالي السياسي لا يسير وفق التشريعات والقوانين السائدة، بل يسير وفق الحاجات والضرورات التي تتطلبها المرحلة التي تمر بها المجتمعات، حتى وإن كانت هذه التشريعات والقوانين تضع قيوداً على حركة هذه المجتمعات، لذلك علينا أن نعيد النظر في التشريعات والقوانين لتيسير عمليات التحول والتغيير، لا أن نمنع التغيير الاجتماعي باستخدام قوة السلطة.
إحدى آليات التي توجد حلولاً للتفاوت الاجتماعي تتمثل في تمكين مختلف مكونات المجتمع من العمل بحرية، والسماح لجميع العاملين بأجر في الأردن من ممارسة حقهم في التنظيم النقابي الذي يمثل مصالحهم بشكل حقيقي، ليخوضوا صراعاً سلمياً مع الأطراف الأخرى ذات العلاقة باستخدام مختلف أساليب التفاوض الجماعي المتعارف عليها.
أحمد محمد عوض: باحث ومدير مركز الفينيق للدراسات الاقتصادية.
نستقبل ردودكم المفصلة على مقالات تكوين عبر الايميل لنشرها بما يتناسب مع السياسة التحريرية للموقع