في ظل الأوضاع السياسية الملتهبة في المنطقة؛ حيث تزداد العدوانية الشمولية لدولة الاحتلال الإسرائيلي وتتصاعد التوترات بشكل غير مسبوق، قد يبدو الحديث عن قضايا اقتصادية، مثل رفع الحد الأدنى للأجور بعيدا عن الواقع اليومي الذي نعيشه، ترفا. إلا أن تجاهل الأبعاد الاقتصادية في ظل الأزمات قد يضعف قدرتنا على مواجهة التحديات التي نعاني منها على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
اعتماد سياسة الحد الأدنى للأجور يهدف إلى توفير دخل يمكّن الأفراد والأسر من تلبية احتياجاتهم الأساسية، وتعد سياسة الحد الأدنى للأجور من الركائز الأساسية التي تعتمدها معظم الدول لتحقيق التوازن الاجتماعي والحد من الفقر وتعزيز الحماية الاجتماعية. وتشير الإحصاءات إلى أن أكثر من 90 بالمائة من دول العالم تطبق هذه السياسة بطرق مختلفة.
يُعرّف الحد الأدنى للأجور على أنه أقل مستوى من الأجر الذي يجب أن يحصل عليه العامل لتغطية احتياجاته الأساسية وضمان حياة كريمة له ولأسرته، خاصةً للداخلين الجدد إلى سوق العمل وذوي المهارات المحدودة. لكن في العديد من القطاعات الاقتصادية الأردنية، يُعامل الحد الأدنى على أنه الحد الأقصى للأجور، مما يضعف دوره الأساسي في تحقيق العدالة الاجتماعية.
وعند النظر إلى التجارب الدولية، نجد أن رفع الحد الأدنى للأجور يتم غالبا بناءً على معايير اجتماعية واقتصادية تشمل خط الفقر، معدل الإعالة، ومستويات التضخم. وفي الأردن، يُظهر خط الفقر المحتسب، وفق أرقام 2016، أن خط الفقر الشهري للفرد يبلغ حوالي 100 دينار؛ أي أن الحد الأدنى لتغطية احتياجات الأسرة المعيارية (المكونة من 4.8 فرد) يجب أن يصل إلى حوالي 480 دينارا شهريا. ومنذ العام 2016 وحتى الآن، شهد الأردن ارتفاعا في معدلات التضخم تراكمت لتصل إلى حوالي 20 بالمائة، ما يعني أن خط الفقر ارتفع بشكل كبير.
استنادا إلى هذه المؤشرات، نجد أن الحد الأدنى للأجور الحالي، الذي يبلغ 260 دينارا، بعيد كل البعد عن تغطية احتياجات الأسر الأساسية. وفي هذا السياق، يطالب اتحاد نقابات العمال برفع الحد الأدنى للأجور إلى 300 دينار شهريا، إلا أن هذا المطلب، رغم أهميته، ما يزال غير كافٍ لمواجهة التحديات الاقتصادية الحالية.
ورغم أهمية تطبيق سياسة حد أدنى للأجور، هنالك من يجادل بعدم تطبيق هذه السياسة، ويدعي تأثيراتها السلبية على معدلات البطالة والنمو الاقتصادي، وفي هذا المجال، تشير الأبحاث الاقتصادية التطبيقية إلى نتائج مختلفة. ففي دول محدودة، أدى رفع الحد الأدنى إلى انخفاض طفيف في معدلات التوظيف بين الفئات الأقل مهارة، بينما لم تظهر أي تأثيرات سلبية في دول أخرى. بل على العكس، أظهرت دراسات أن رفع الحد الأدنى للأجور غالبا ما يدفع عجلة النمو الاقتصادي ويحفز الاقتصاد، وبالتالي يزيد من فرص العمل في الاقتصاد ككل، لأنه يزيد الطلب المحلي على الاستهلاك.
إن رفع الحد الأدنى للأجور ليس مجرد قضية اقتصادية -بمنظور بعض رجال الأعمال- بل هو ضرورة اجتماعية واقتصادية لضمان حد أدنى من العدالة الاجتماعية وتقليل اللامساواة الاقتصادية وتحفيز الاقتصاد.
ففي ظل التحديات الراهنة التي يواجهها المجتمع، يصبح من الضروري تبني سياسات اقتصادية تسهم في الحفاظ على استقرار الأردن، وتحفز الطلب المحلي على الاستهلاك من أجل الخروج من دائرة التباطؤ الاقتصادي الذي نعاني منه منذ 15 عاما، إلى جانب توفير الحياة الكريمة للمواطنين.
صحيفة الغد الأردنية، 2024/10/7