يجري في الوقت الراهن وضع اللمسات النهائية على مختلف بنود الموازنة العامة للدولة لعام 2015 من قبل مختلف مؤسسات الدولة الأردنية، وكما هو معروف فإن الموازنة تعدّ خطة الحكومة لعام مقبل، وعادة ما تُدار بهذه المناسبة مناقشات على مستويات مختلفة سواء في وسائل الإعلام المختلفة أو في أوساط السياسيين والاقتصاديين الرسميين وغير الرسميين، وتبلغ هذه المناقشات ذروتها في مداولات أعضاء مجلس النواب تحت القبة.
من المفيد الإشارة إلى أن محاور مختلف المناقشات المتعلقة بالموازنة تركز على موضوع عجزها المزمن وما يترتب عليه من مشكلات بنيوية في الاقتصاد الأردني، ومن أهمها ارتفاع الدين العام وضعف النمو الاقتصادي وعدم فاعليته وغيرها من المشكلات.
ومنذ ما يقارب ربع قرن، أي منذ عام 1989 نتوقف سنوياً عند المشكلات والتحديات الاقتصادية ذاتها، وتداعياتها الاجتماعية، فمشكلة عجز الموازنة العامة للدولة كانت مرتفعة وما زالت تسير باتجاه متصاعد، والمديونية بنوعيها (الداخلية والخارجية) كانت مرتفعة وما زالت، وتسير أيضاً في اتجاه تصاعدي ملموس، وكذلك تقفز مستويات الأسعار سنة بعد أخرى، ونشتكي ارتفاعاتها المتتالية، وأجور الغالبية الكبيرة من العاملين كانت ولا تزال منخفضة، ولا تكفي لتوفير مستوى حياة كريم لغالبية المواطنين، بل إن اتجاهاتها تراجعية بالمقارنة مع معدلات التضخم، ومعدلات البطالة كانت ولا تزال مرتفعة مرتفعة، وعدد الفقراء كبير ويزداد عاماً بعد آخر...، وهكذا ندور في حلقة مفرغة لا فكاك منها.
واللافت أننا نعالج مشكلاتنا الاقتصادية بالطريقة نفسها وبـالنهج الاقتصادي ذاته منذ ربع قرن، وهو النهج الذي يرتكز على تحرير التجارة الخارجية وتحرير الأسعار والخصخصة وزيادة الضرائب غير المباشرة (الضريبة العامة على المبيعات والضرائب الخاصة)، ورفع الدعم عن السلع الأساسية الذي رافقه تنفيذ برامج حماية اجتماعية غير فعالة، إلى جانب تنفيذ سياسات مالية تقشفية استهدفت الضغط على الخدمات العامة والأجور، وانعكست بشكل سلبي على قدرة الاقتصاد على توليد فرص عمل لائقة، كما تراجع مستوى معيشة غالبية المواطنين، بدلالة الانخفاض الملموس في مستويات الأجور واستمرار معدلات البطالة على ارتفاع، وارتفاعها الكبير جدا عند الشباب، وتراجع جودة الخدمات الاجتماعية الأساسية التي يقدمها القطاع العام مثل: التعليم والصحة وغيرها، الى جانب اتساع رقعة الفقراء، التي أدت بالمجمل إلى اتساع التفاوت الاجتماعي.
وغير خافٍ أن استمرار معاناة الأردنيين من تعمق الأزمة الاقتصادية وتداعياتها الاجتماعية المختلفة، مرتبط بشكل وثيق بتعمق أزمتنا السياسية واستعصاء عملية التحول الديمقراطي التي بدأناها منذ عام 1989، وتعود بشكل واضح إلى غياب المشاركة السياسية الحقيقية والفعالة واستمرار سيطرة بعض مراكز القوى على عملية اتخاذ القرار السياسي والاقتصادي بشكل يستجيب لمصالح فئات محددة ومحدودة، ضاربين عرض الحائط مصالح الغالبية الكبيرة من الأردنيين، الذين لا زالوا يدفعون ثمن هذه السياسات الاقتصادية التي يبرر تمريرها من قبل الحكومات المتعاقبة بأنها ستنعكس إيجابا على حياة المواطنين في المستقبل الذي لم يأت بعد.
والخلاصة، فإن حجم التحديات الكبيرة التي يواجهها الأردنيون في حياتهم اليومية، في ظل تنامي مظاهر التفاوت الاجتماعي، ووجود بيئة سياسية تنعدم فيها الثقة بين غالبية المواطنين ومؤسسات الدولة الرسمية، إضافة إلى بيئة إقليمية مضطربة وبشكل تصاعدي وتحمل الكثير من المخاطر على الأمن الوطني، تتطلب من صناع القرار، وعلى اختلاف مستوياتهم، إعادة النظر بالسياسات الاقتصادية التي يتم تطبيقها سنة بعد أخرى، باتجاه تطوير وتطبيق سياسات اقتصادية تستند إلى مؤشرات حقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية.