المرصد العمّالي الأردني - رزان المومني
بين مقاعد الجامعات التي لا تَعِدُ جميع خريجيها بفرص عمل، وسوق عمل يعاني من نقص العمالة الفنية المؤهلة، يقف آلاف الشباب الأردني عند مفترق طرق بحثا عن مسارٍ أكثر ضماناً لإيجاد فرص العمل في المستقبل..
وفي هذا السياق، باتت برامج التدريب المهني خيارا واقعيا ومتناميا، يحظى بقبول واسع بين الشباب ذكورا وإناثا، ليس باعتباره بديلا أقل شأنا من التعليم الجامعي، بل باعتباره طريقا أسرع إلى إيجاد فرص العمل.
تشير أرقام دائرة الإحصاءات العامة الأخيرة إلى أن معدل البطالة في الأردن بلغ 21.3 بالمئة، وأن 60 بالمئة من المتعطلين هم من حملة الثانوية العامة فأعلى. هذا الواقع جعل البحث عن مسارات تعليمية وتدريبية مرتبطة مباشرة بسوق العمل أمرا لا مفر منه.
فيما كانت قد أعلنت مؤسسة التدريب المهني أن عام 2024 شهد إنجازا استثنائيا بتخريج أكثر من 12 ألف متدرب ومتدربة، رغم أن الطاقة الاستيعابية للمعاهد تبلغ نحو 8 آلاف فقط.
وبلغ عدد الملتحقين حاليا بمقاعد التدريب 9500 متدرب في البرامج المهنية و1500 في التعليم المهني، موزعين على 30 معهداً في مختلف محافظات المملكة.
وكشفت بيانات المؤسسة أن 62 بالمئة من الخريجين حصلوا على فرص عمل ولديهم أرقام ضمان اجتماعي، منهم 53 بالمئة يعملون في تخصصاتهم، و9 بالمئة في مجالات أخرى، فيما يعمل 19 بالمئة في الاقتصاد غير المنظم، ما يعني أن نحو 80 بالمئة من الخريجين لديهم مصدر دخل.
هذه الأرقام تكشف عن حجم التأثير الذي أحدثته هذه البرامج في تزويد سوق العمل الأردني بكوادر مؤهلة، وتتبلور على خطوط التدريب المهني آمال شبابية متجددة، تدفع باتجاه مستقبل مهني قائم على المهارة والإنتاج، في ظل تحديات بطالة متفاقمة وسوق عمل غالبا لا يرتقي إلى طموحات خريجي البكالوريوس.
وعلى هذا، تتجلى قصص آلاف الأردنيين الذين يقفون عند مفترق طرق بين الدراسة النظرية الطويلة في الجامعات وسوق عمل يعاني من نقص العمالة الفنية المؤهلة، حيث استطاع "المرصد العمّالي الأردني" توثيق قصص تحمل ملامح التغيير الفعلي في حياة شباب اختاروا التعليم المهني.
من الإرشاد إلى النجارة
في زقاق ضيق من أحياء عمّان القديمة، داخل إحدى ورش النجارة، يجلس الشاب خالد (35 عاماً) بين ألواح الخشب وآلات القطع. فبعد تخرجه في تخصص الإرشاد النفسي وبحثه الفاشل عن وظيفة مكتبية، قرر أن يلتحق بأحد معاهد التدريب المهني ليتعلم مهنة النجارة.
التحق خالد ببرنامج تدريبي مكثف في النجارة استمر نحو ستة أشهر، تلقى خلاله دروساً عملية وميدانية على أيدي مدربين متخصصين. ومكّنه من إتقان الأساسيات والاندماج سريعا في سوق العمل.
تتوزع في الورشة التي يعمل بها خالد أصوات الآلات التي تصدح بإيقاع حيوي، وابتسامات الشباب الذين اختاروا أن يبنوا مستقبلهم بأيديهم، وهو انتقل من شاب متعطل عن العمل إلى حرفي ماهر يُعيل عائلته ويؤسس لنفسه مكاناً في سوق العمل.
يقول خالد في حديثه لـ"المرصد العمّالي الأردني" إنه يعود إلى البيت متعبا من الوقوف الطويل ونشارة الخشب العالقة بملابسه، لكن شعوره بالإنجاز عندما ينشر طاولة أو خزانة بيده يعوضه عن كل التعب.
يتقاضى خالد اليوم أجراً شهرياً يتراوح بين 500 و600 دينار، وهو مسجل رسميا في الضمان الاجتماعي، ويجمع جزءا من دخله حتى يستطيع تأسيس ورشته الخاصة مستقبلاً.
التجميل فرصتها لمواجهة البطالة
فيما لم تكن مريم (28 عاماً) خريجة تخصص المحاسبة تتوقع أن شهادتها الجامعية ستبقى حبيسة الأدراج لسنوات طويلة دون أن تجد عملاً.
تقول في حديثها لـ"المرصد العمّالي الأردني" إنها قدمت عشرات الطلبات ولم تحصل حتى على مقابلة عمل واحدة، وكانت تشعر أن الوقت يضيع وأنها عاطلة عن الحياة.
هذا الواقع دفعها للتفكير بخيارات بديلة، فقررت الالتحاق ببرنامج تدريبي في التجميل داخل أحد معاهد مؤسسة التدريب المهني متحدية أسرتها التي رفضت هذا التوجه والنظرة المجتمعية.
توضح مريم أنه في أول يوم تدريب شعرت بالخجل لكن مع الوقت أدركت أنها تتعلم مهنة لها قيمة، وتفتح أمامها باباً للرزق والاعتماد على النفس.
بعد اجتيازها الدورة، بدأت مريم بخطوات صغيرة من داخل منزلها، تقدم خدمات التجميل لجاراتها ومعارفها، قبل أن تتمكن من توفير دخل لا يقل عن 450 دينارا شهريا سمح لها بتجهيز ركن بسيط كصالون منزلي.
ورغم التحديات، ترى مريم أن التدريب المهني منحها فرصة جديدة للحياة، فعلى حد تعبيرها ليست مضطرة لانتظار وظيفة حكومية أو مكتب محاسبة، فهي تستطيع اليوم أن تعمل وتطور مشروعها وهو ما منحها ثقة بالنفس.
من مقاعد الرسوب لتأسيس مشروع
أما عيسى ابن التاسعة عشرة فقد حالف الإخفاق مسيرته الدراسية، حيث لم ينجح في الثانوية العامة. لكنه لم يقف طويلاً أمام هذا العائق والتحق بإحدى معاهد التدريب المهني وتدرب على صناعة الحلويات.
يقول في حديثه لـ"المرصد العمّالي الأردني" إنه بعد ستة أشهر فقط، حصل على وظيفة كمساعد شيف في فندق بدخل ثابت قدره 350 دينارا، لكن طموحه أكبر من أن يكتفي براتب شهري، لذلك بدأ بتحضير حلويات منزلية وبيعها في المناسبات.
اليوم يمكن أن يصل دخل عيسى الشهري إلى 1000 دينار في مواسم الأعياد، ورغم أن العمل يتطلب ساعات طويلة في المطبخ تصل أحيانًا إلى 12 ساعة يوميا، إلا أن عيسى يرى أن هذا الجهد هو استثمار لمستقبل يخطط فيه لافتتاح محل خاص به وتوظيف زملاءه الذين تدربوا معه في المعهد.
هذه النماذج وغيرها كثير تكشف عن العوامل التي تجعل من التدريب المهني بوابة حقيقية لتغيير المسار، ويمنح المتدربين فرصة لاختيار التخصص المناسب، ويوفر لهم تدريباً عملياً ميدانياً، ويربطهم مباشرة بفرص التوظيف أو تأسيس مشاريعهم الخاصة، إلى جانب الدعم اللوجستي أو المالي الذي قد يرافق بعض البرامج.
لكن رغم هذا الزخم تبقى التحديات قائمة، وتحديث المناهج ضرورة ملحة لضمان توافق التدريب مع متطلبات سوق العمل المتغيرة وخاصة في القطاعات التقنية.
كما أن النظرة المجتمعية السائدة التي ترى في التعليم المهني خياراً أقل من البكالوريوس، لا تزال تعيق إقبال بعض الشباب عليه، وهو ما يتطلب حملات توعية وتسليط الضوء على قصص النجاح لتغيير هذه الصورة النمطية.
ركيزة للحماية الاجتماعية والتنظيم العمالي
يؤكد الخبير في التأمينات الاجتماعية موسى الصبيحي في حديثه لـ"المرصد العمّالي الأردني" أن التدريب المهني والتقني هو المدخل الأساسي لمعالجة أزمة البطالة بين الشباب الأردني، خصوصا المتعلمين وخريجي الجامعات الذين لا يجد كثير منهم مكاناً في سوق العمل.
ويرى الصبيحي أن مؤسسة التدريب المهني مطالبة بتطوير برامجها بما يواكب المعايير الدولية، بحيث يحصل الخريج على تدريب مكثف يجعله قادراً على مزاولة المهنة بكفاءة عالية، ويكون مقبولاً في سوق العمل المحلي والخارجي على حد سواء.
ويوضح أن هذا التطوير يجب أن يترافق مع تصنيف للمهن والمهارات وضمان ارتباطها باحتياجات السوق، مؤكدًا أن "التعليم المهني يحتاج إلى رعاية حكومية جادة لأنه الأساس في مواجهة البطالة".
ويشدّد الصبيحي على أهمية شمول طلاب ومعاهد التدريب المهني بالضمان الاجتماعي، بحيث يتمتع المتدربون – حتى من هم دون 16 عاماً – بتأمين إصابات العمل، بينما يُشمل الخريجون بعد دخولهم سوق العمل سواء كعاملين أو أصحاب عمل ضمن مظلة الضمان الاجتماعي وقانون العمل.
ويدعو إلى تنظيم العمل الحر والحرف غير المنظمة، حمايةً للمستهلك وضمانا لجودة الخدمات، معتبراً أن تنظيم هذا القطاع من شأنه تشجيع الشباب على الالتحاق بالمسار المهني والتقني، ويؤدي في الوقت ذاته إلى إحلال العمالة الوطنية محل العمالة الوافدة.
وفيما يتعلق بالأجور، يرى الصبيحي أنه "من يتخرج من برامج التدريب المهني ويثبت كفاءته يجب أن يحصل على أجر أعلى من الحد الأدنى للأجور المعمول به، تقديرا لمهاراته وتشجيعا لغيره على الانخراط في هذا المسار".
ويؤكد على أن تطوير التشريعات والتوسع في برامج التدريب النوعية وتكثيف حملات التوعية، سيمنح التعليم المهني قيمة اجتماعية جديدة، ويجعله أحد الأعمدة الرئيسية لتقليص البطالة وتعزيز الأمن الاجتماعي للشباب الأردني.
ضرورة دعم المسارات المهنية
فيما يؤكد المرصد العمّالي الأردني أن التوسع في برامج التدريب المهني والتقني يشكّل أداة رئيسية لتقليص معدلات البطالة بين الشباب.
ويشدّد المرصد على ضرورة دعم هذا المسار بتشريعات وسياسات حكومية واضحة، تضمن مواءمة التدريب مع احتياجات سوق العمل، وتمنحه المكانة التي يستحقها كخيار استراتيجي لمعالجة البطالة وتعزيز فرص العمل اللائق.
ويدعو المرصد إلى الإسراع في تبني سياسات أكثر فاعلية قادرة على خلق فرص عمل حقيقية للشباب، وتكثيف التوعية بأهمية التعليم المهني والتقني وتشجيع الناجحين في الثانوية العامة على اختيار التخصصات المطلوبة في السوق والبحث عن مهن المستقبل.
وفي سياق متصل، كان المرصد قد أصدر منذ أيام ورقة تقدير موقف بمناسبة اليوم العالمي للشباب الذي صادف 12 آب، أوضح فيها أن التوسع في التعليم الجامعي الأكاديمي منذ أكثر من ثلاثة عقود على حساب التعليم التقني والمهني، وبخلاف حاجات سوق العمل الأردني، أدى إلى تشوهات هيكلية كبيرة وزيادة ملموسة في معدلات البطالة بين الشباب.
ولفت المرصد إلى بعض التغيرات المحدودة في السياسات الحكومية مؤخراً، مثل قرار تخفيض الرسوم الجمركية على العديد من السلع، وتوسيع فرص التعليم والتدريب التقني والمهني، معتبراً أنها خطوات يمكن أن تشكل نقطة تحول، لكنها لا تزال غير كافية.