المرصد العمالي الأردني – عائشة الغبن
"انهيار جدار استنادي على عامل بناء"، "سقوط عامل بناء عن رافعة إنشائية"..
مثل هذه العناوين صار أمرا اعتياديا ملاحظتها في مختلف وسائل الإعلام الأردنية، وهو ما تؤشر إليه الإحصاءات التي تُظهر أن معدلات الوفيات الناجمة عن إصابات ضمن عمال قطاع الإنشاءات هي من أعلى المعدلات، إذن ما سبب ذلك؟ وعلى من تقع المسؤولية؟
يُظهر تقرير إصابات العمل الصادر عن مؤسسة الضمان الاجتماعي لعام 2021 أن قطاع الإنشاءات سجل أعلى معدل في وفيات إصابات العمل، بمعدل 33.4 وفاة لكل مئة ألف عامل مؤمّن عليه في الضمان الاجتماعي، بالإضافة لتسجيل إصابة (19.3) عاملاً من كل ألف عامل من العاملين في هذا القطاع في العام ذاته.
وبلغ عدد إصابات العمل في قطاع الإنشاءات عام 2021 لوحده 635 إصابة وفق أرقام مؤسسة الضمان الاجتماعي.
معدل وقوع الوفيات الإصابية لكل مئة ألف مؤمن عليه خلال عام 2021 بحسب القطاع الاقتصادي الخاص - مؤسسة الضمان الاحتماعي
ما يميز الحوادث التي تقع في قطاع الإنشاءات عن غيرها من القطاعات، أنها غير دائمة زمانيا وغير ثابتة مكانيا؛ فهي ليست كما سائر القطاعات؛ منشآت ثابتة ومعروفة المكان..
فالأبنية يمكن أن تنشأ في أي مكان، وتدوم لفترة غير طويلة، ما يعني صعوبة متابعتها ومراقبتها، وكذلك صعوبة توفير جميع متطلبات الأمان، واختلاف هذه المتطلبات وفقا لطبيعة البناء أو الإنشاء، أكان مبنى سكنيا أو تجاريا، أو منزلا، أو نفقا أو جسرا أو شارعا أو طريقا ذا طبيعة وعرة.
البيئة التشريعية لأعمال الإنشاءات
يلاحظ المتابع أو المهتم بأعمال الرقابة على الأعمال الإنشائية أن هناك اعتناءا تشريعيا فيها، وأن هناك عدة جهات تراقب سيرها بمختلف مراحلها، بما فيها إجراءات السلامة العامة للعاملين، وكذلك سلامة الأبنية والمنشآت بما يحف حيوات ساكنيها أو مستخدميها.
فهناك نقابة المهندسين وهيئة المكاتب والشركات الهندسية ونقابة المقاولين وأمانة عمان الكبرى ومجالس البلديات، بالإضافة إلى وزارة الأشغال العامة والمؤسسة العامة للإسكان والتطوير الحضري ومديرية الدفاع المدني. جميعها مرتبطة بإجراءات السلامة العامة في قطاع الإنشاءات.
تتبع أعمال الإعمار التي تقام في المملكة لقانون البناء الوطني الأردني رقم 7 لسنة 1993، الذي ينص في المادة 12 أنه "على المكاتب والشركات الهندسية ومقاولي الإنشاءات ومن يقوم بأعمال الإعمار التقيد بالكودات (مجموعة من القواعد والشروط والمتطلبات الفنية المتعلقة بأعمال الإعمار) المعتمدة في تصميم هذه الأعمال أو الإشراف عليها أو تنفيذها أو صيانتها والتبليغ عن أي مخالفة لها في حال اكتشافها".
أما بالرجوع إلى قانون نقابة المهندسين فتجد التعليمات الخاصة اللازمة في جميع مراحل العمل الهندسي والمتعلقة بالمتطلبات الفنية لشروط السلامة العامة الواجب توافرها لمشاريع الإعمار في المملكة.
ويتبع لقانون النقابة "نظام إجراءات الرقابة والتفتيش على أعمال الإعمار لسنة 2020"، الذي ينص على إجراءات الرقابة والتفتيش اللازمة للتأكد من التزام المقاولين والقائمين على المشاريع التي هي قيد التنفيذ بتحقيق متطلبات السلامة العامة والكودات الهندسية وتنفيذ المخططات الهندسية.
ولا يجوز تنفيذ المقاولات الإنشائية في المملكة إلا من قبل المقاولين المسجلين في النقابة والأعضاء فيها، كما ينص قانون نقابة مقاولي الإنشاءات المعدل لسنة 2014 في المادة 16.
وبالرغم من التنظيم القانوني والتنسيق المنظم بين جميع أطراف العلاقة إلا أن حادثا كحادث انهيار في شارع وصفي التل قبل خمس سنوات نتيجة أعمال إنشائية، أظهر قصورا كبيرا في تطبيق هذه القوانين والأنظمة، وبخاصة بعد أن شهدنا تبادلا للاتهامات والمسؤولية بين أمانة عمان الكبرى ونقابة المهندسين.
في حديثه إلى "المرصد العمالي الأردني" يقول المهندس المدني فيصل القاسم إنه عند استلام مشروع إنشاءات وبعد إجراء الدراسات الهندسية كافة على الموقع من قبل المكتب الهندسي، يسلم المشروع إلى مقاول إنشاءات، الذي إما يعمل مستقلا أو يتبع لمكتب مقاولات، ومكتب المقاولات، أو المقاول هو الذي يأتي بالعمال والمعدات والآليات اللازمة للمشروع وفق توصيات المكتب الهندسي.
ويشير القاسم إلى أن تفاصيل هذا المشروع كافة تقع على عاتق المقاول المسؤول؛ إذ أن المكتب الهندسي "ينتهي عمله بمجرد تسليم المشروع للمقاول ويتبقى عليه دور الإشراف على سير العمل فقط".
ويبين القاسم أن من أهم مهام المقاول أيضا "التأكد من أمور الصحة والسلامة وضمان توفرها".
أما "أبو محمد"، وهو مقاول مصري الجنسية ومشارك في مكتب مقاولات، فله رأي آخر، حيث يؤكد للمرصد أن مهمة تتبع أمور الصحة والسلامة المهنية هي من مسؤولية المكتب الهندسي، وأن عمل المقاول من هذه الناحية يقصُر على توفير معدات السلامة مثل الخوذة والحذاء الآمن والعواكس للعمال، بالإضافة إلى المشروع كاملا.
أيمن، عامل بناء منذ أكثر من 20 عاما، يقول، في حديثه إلى "المرصد العمالي"، إن العمال لا يكترثون لوجود معدات السلامة في الموقع، وإن كثيرين منهم لا يحبذون ارتداء الخوذة لصعوبة العمل بها، هذا ما يسمح للمقاولين بإهمال إجراءات السلامة بسبب عدم مطالبة العمال بها.
إذن، من المسؤول المباشر عن تطبيق التدابير الوقائية اللازمة لسلامة العمال؟
رئيس النقابة العامة للعاملين في البناء محمود الحياري، في حديثه إلى "المرصد العمالي"، يقول إن المقاول هو المسؤول عن توفير أدوات الصحة والسلامة اللازمة كافة لحماية كل من العمال والمواطنين والمشروع بشكل عام.
وفي السياق ذاته، تنص التعليمات الخاصة بإجراءات الرقابة والتفتيش الصادرة بمقتضى نظام رقم (52) لسنة 2020 من قانون نقابة مقاولي الإنشاءات على وجوب إنشاء لجان تفتيش رقابية مسؤولة عن إجراء أعمال التفتيش والرقابة على مشاريع الإعمار التي تُقام في المملكة لمراقبة سير عملها وضمان التزامها بالقانون والتشريعات النافذة.
ومن وظائف اللجنة "التأكد من توافر لوحة المشروع وجميع اللوحات الاسترشادية للسلامة العامة ومتطلبات السلامة العامة للحفريات والفحص الفني للرافعات" كما ذُكر في المادة 5 من النظام.
وتحدد المادة السادسة من النظام متى تقوم لجان التفتيش الرقابية بإجراء الكشوفات، وهي في حالات معينة مثل: حدوث انهيار أو أضرار تتعلق بتنفيذ المشروع، أو ورود شكوى إما من المواطنين أو من وسائل الإعلام، بالإضافة إلى إجراءات التفتيش الدوري والمنتظم والمخطط له للأهداف الوقائية.
تُدرك مؤسسات الدولة كافة أهمية السلامة العامة والمهنية، ويظهر ذلك من خلال تحديث "نظام السلامة والصحة المهنية والوقاية من الأخطار المهنية في المؤسسات" المنبثق عن قانون العمل رقم 8 لعام 1996 الذي صدر الأسبوع الماضي، الذي يُلزم صاحب العمل الذي يستخدم عشرين عاملاً فأكثر بإجراء تقييم للمخاطر المهنية في بيئة العمل، وتحليلها من حيث الشدة واحتمالية الحدوث وأثرها على العاملين والممتلكات.
إذن؛ فتوفير أدوات السلامة للعمال هي من مسؤولية المقاول، كما تقع عليه مسؤولية تقييم المخاطر، لكن؛ على من تقع مسؤولية التفتيش؟
يؤكد الحياري أن مسؤولية التفتيش على السلامة المهنية للعمال "تقع على عاتق وزارة العمل فقط"؛ فهي الجهة الوحيدة المسؤولة عن العمال وسلامتهم، إذ يتحمل قسم التفتيش التابع لوزارة العمل مسؤولية المراقبة على كل منشأة والتأكد من اتباعها لكافة الإرشادات لضمان حماية العمال.
ولذلك فإن أي إصابة أو وفاة لعامل يجب أن تتحمل مسؤوليتها وزارة العمل.
لكنه يلاحظ الحياري أنه وبسبب أعداد الإنشاءات الكبيرة بالإضافة لشركات ومؤسسات القطاع الخاص مع قلة عدد المفتشين في وزارة العمل "لا يمكن للوزارة المراقبة عليها كاملة وأداء عملها بشكل صحيح".
ويعتقد أن "ضعف الرقابة" هو ما يؤدي إلى تراجع الالتزام بتوفير إجراءات الصحة والسلامة للعمال من قبل المقاولين.
المسؤولية من الجهة القانونية
تؤكد المحامية المتخصصة بالقضايا العمالية أسماء عميرة، أن العامل غير الخاضع للضمان الاجتماعي إذا ثبت أن هناك تقصيرا من صاحب العمل أو المقاول فهنا "تقع المسؤولية المدنية والجزائية عليه"، ويتم تعويضه أو وارثيه وفقا لقانون العمل وتقارير الخبرة.
بينما العامل الخاضع للضمان، فالمؤسسة العامة للضمان الاجتماعي هي التي تقوم بتعويضه بحسب نسبة العجز والتعطل.
ويؤيد رئيس هيئة المكاتب والشركات الهندسية المهندس عبدالله عاصم غوشة ما ذهب إليه الحياري، إذ يؤكد أنه بالرغم من البيئة التشريعية الناظمة لقطاع الإنشاءات الذي يعتبر من أبرز القطاعات والمحركة للاقتصاد الوطني في الأردن، حيث يشغل بما نسبته 11 بالمئة من إجمالي القوى العاملة ويساهم بما نسبته 5 بالمئة من الناتج الإجمالي المحلي، إلا أن ضعف الرقابة وقلة عدد المفتشين جعلته قطاعا غير منظم يحمل أعلى معدلات للوفيات الإصابية.
ووفق منطوق المادة 5 من قانون العمل رقم 8 لسنة 1996 فإن وزارة العمل هي المعنية بتولي مهام التفتيش، حيث حددت آلياته في نظام إجراءات الرقابة والتفتيش على الأنشطة الاقتصادية الذي حدد واجبات مفتش العمل بالإضافة إلى تحديد أوجه عدة لزيارات التفتيش، منها: التفتيش الدوري، تفتيش المتابعة، التفتيش بناءا على شكوى وغيرها.
ولا يبرر نقص أو قلة عدد فرق التفتيش لدى الوزارة بأي حال تقصيرها في إجراءات التفتيش وتغطيتها جميع المنشآت بما فيها ورشات الإنشاءات، والقيام بواجباتها حيال التأكد من استيفاء متطلبات سلامة العمال.
وهذا ما تؤكده وتثبته المادة الأخيرة من قانون العمل التي تقول إن "رئيس الوزراء والوزراء مكلفون بتنفيذ أحكام هذا القانون".
لا يمكن أن نغفل أهمية وجود بيئة تشريعية ناظمة، لكن هل الاكتفاء بها وعدم تطبيقها ومراقبتها على أرض الواقع سيحقق حلا للمشكلة؟