علا بدر -
على الرّغم ممّا وصلت إليه المجتمعات من تطور في جميع مجالات الحياة، وما نسمعه عن العولمة في عصرٍ قد تنشأ فيه الثورة بمجرد النّقر على الأجهزة الإلكترونيّة، إلّا أنّنا ما نزال نقف حائرين عندما يتعلَّق الأمر بالعلاقات الإنسانية، وبخاصة عندما يتعلق الأمر بالمرأة وحقوقها، وبين فرضية أنَّ المرأة مُعطى بيولوجي، أو فرضية أنّها بناء ثقافي اجتماعي تاريخي.
ينشأ هذا الواقع التمييزي، لا لسبب سوى أنّها امرأة، فنرى نساء مُعنَّفات في كلّ مكان، في المنزل والشارع ومكان العمل، والأهمُّ من هذا الواقع التمييزي هو التبرير له، وإقناع الضحية بالإيمان المُطلق بصحّة هذا الواقع، إلى أن تصل درجة تكون فيها هي الضحيَة و الجلاد في الآن ذاته.
لا شكّ في أن العنف مشكلة عالمية، وهي لا تخصّ منطقة مُعيّنة أو بلدا مُحدّدا، والاختلاف ليس في وجود المشكلة من عدمه، وإنما في كيفية استجابة الدّول والمؤسسات والأفراد في التعامل مع هذه المشكلة، وبخاصة في ظل خطورة تفشّيها بعد جائحة كورونا.
وهذا لا يعني حداثة ظهورها؛ فهي مشكلة قديمة، لكنها مؤشر على تزايد الوعي لدى الأفراد المعنَّفين، وبخاصة المرأة، حيال ما لهم وما عليهم، كما تكمن خطورتها بارتباطها الوثيق في الحياة الخاصة والعامة، وآثارها الاقتصادية والاجتماعية والنفسية على المجتمع بأكمله.
وعلى رغم الجهود المبذولة لذلك، إلا أن أوضاع النساء في عالمنا العربي تحتاج إلى تصويب، فتفاعل أفراد المجتمع مع تلك الدعوات العالمية لم يكن على الوجه المطلوب، نظراً لتلك العادات والتقاليد التي صنفت المرأة بأنها جنس من الدرجة الثانية، لتصبح التعاريف الأنثوية القائمة على البيولوجيا بمثابة الأيديولوجيا التي تم توظيفها ذريعة لتعيين الهويات في المجتمع الذكوري، كما يجري تلقين الفتاة منذ الصغر ثقافة تخاذلية تحد من إمكاناتها وقدراتها، بل ويتجاوز الأمر ذلك ليتم حقنها بأدوار فُرضت عليها من قبل الهيمنة الذكورية.
وبسبب هذا الظلم الذي وقع عليها وعدم معرفتها بحقوقها أصبحت حطاماً تذروه الرياح وفق ما تهواه تلك الهيمنة، بدلاً من أن تعيش حياتها وفق قاعدة تساوي الخلق في الإنسانية والحقوق. وقد تلعب الممارسات الثقافية والمعتقدات التمييزية دورا أساسيا في خلق أرضية ملائمة لانتشار حالات العنف ضد المرأة، وبخاصة إذا ما افتقرت إلى الحماية القانونية، إذ أن تطبيق القوانين والممارسات العرفية التي تكرّس التمييز بين الجنسين في ظل محدودية الوعي، وغياب الحملات المناهضة لمثل هذه الانتهاكات في الملاحقات القضائية للحالات المبلغ عنها، تزيد من خطورة المسألة وتضاعف إمكانية تكرار حصولها، فعلى سبيل المثال غالبا ما يُنظر الى النساء والفتيات المعيلات وصانعات القرار باعتبارهن تهديدا مباشرا للمعايير الذكورية، مما قد يؤدي إلى انتهاج العنف الجنسي والجسدي والاقتصادي والإلكتروني ضدهن، الأمر الذي يقوض حريتهن في الفضاء العام.
ولا نبالغ إذا قلنا إن هذا التمييز على أساس الجنس يحرم ملايين النساء في العالم من الوظائف، ويحصرهن في مهن معيّنة، وما يزال جزء كبير منهنّ يتعرض للتمييز بسبب الحمل والوضع الاجتماعي والمسؤوليات العائلية، فيما تبقى الثغرة في الدخل بين الجنسين مشكلة عالمية بغض النظر عن قدراتهن أو اشتراطات الوظائف.
ويزداد الأمر تعقيداً على النساء عندما ينصدمن بهشاشة الإجراءات الضرورية لتوفير شروط العمل اللائق، وبخاصة تلك المتعلقة بظروف العمل التي تكفل السلامة والصحة العامة، من حيث توفير وسائل الحماية الشخصية والوقاية من أخطار العمل ووسائل الإسعاف الطبي والفحص الطبي الدوري لهن، في ظل غياب الحد الأدنى من الحماية الاجتماعية.
ولكن، يقال: لكل مقام مقال، فقد اكتسبت هذه القضية الإنسانية أهمية كبيرة في الآونة الأخيرة، وبدت الحاجة ماسّة بالنسبة للمجتمع الدولي إلى احترام مفهوم حقوق المرأة العاملة لتصبح بيئة العمل مكانا للعمل الذاتي الحر.
وعلى ضوء ما تقدم، فإنه وإن كانت المقاومة الاجتماعية ضرورية، إلا أنها، للأسف، لا تكفي، فالأهم من الفعل المجتمعي هو خلخلة الفكر التقليدي والتصنيفات المبنية على الذكورة والأنوثة في مكان العمل وضبطها بالفعل السياسي المتمثل بالتشريعات والقوانين الناظمة، لحماية النساء في الفضاء العام، وهو حلم وإرادة تحملها النساء في المقام الأول وكل القوى الداعمة لحقوق الإنسان بانتظار أن تثمر على المدى القريب.