أحمد عوض
في إطار الاجتماعات العدیدة التي جرت في العاصمة الأمیركیة واشنطن، الأسبوع الماضي، خلال اجتماعات الربیع الدوریة لصندوق النقد والبنك الدولیین، أثیرت العدید من القضایا الاقتصادیة والاجتماعیة للنقاش؛ حیث طرح كبار موظفي صندوق النقد الدولي وخبرائه بعض الأفكار التي تستحق القراءة والنقاش، وفي ھذه المقالة سیتم مناقشة فرضیة عرضھا ودافع عنھا كبار موظفي وخبراء "الصندوق" في أكثر من لقاء، وتتمثل في أن ارتفاع كلفة الأیدي العاملة في الأردن، یعد من أھم التحدیات التي یواجھھا القطاع الخاص.
ولأن القرارات الاقتصادیة عادة ما تقوم على فرضیات محددة، فإن التسلیم بصحة ھذه الفرضیة یترتب علیه الكثیر، ویفسر أیضاً الكثیر من السیاسات الحكومیة التي نشھدھا في الأردن منذ سنوات عدة، وأسھمت في إضعاف شروط العمل، وتعمیق التفاوت الاجتماعي، واتساع مساحة الفقر، ما دفع الناس للخروج الى الشارع احتجاجا على شروط تراجع شروط الحیاة.
فمن جانب، علینا التسلیم أن اقتطاعات (اشتراكات) الضمان الاجتماعي مرتفعة نسبیا مقابل المنافع التي تقدمھا المؤسسة للمشتركین، وھي بحاجة الى تخفیض للتخفیف على العاملین وأصحاب الأعمال، ولتشجیع منشآت الأعمال على مزید من التشغیل، الى جانب الحد من حدة التھرب التأمیني الواسع جدا، وھذه قضیة لطالما تحدثنا عنھا في مناسبات عدیدة.
ولكن ارتفاع اقتطاعات الضمان الاجتماعي لا یعني أن الفرضیة صحیحة، لا بل إن مختلف المعطیات والمؤشرات الإحصائیة الرسمیة تدفع باتجاه الإقرار بعدم صحتھا.
فمن جانب، تشیر أرقام دائرة الإحصاءات العامة الى أن معدلات الأجور في الأردن لا تزید على 500 دینار شھریا، ومؤشرات المؤسسة العامة للضمان الاجتماعي تشیر الى أن ما یقارب نصف القوى العاملة في الأردن -المشتركون في الضمان الاجتماعي- یحصلون على أجور شھریة بواقع 400 دینار شھریا فما دون، وھي تقل عن خط الفقر المطلق للأسرة المعیاریة.
یضاف الى ذلك أن أجور العاملین غیر المنظمین -غیر المشتركین في الضمان الاجتماعي و/أو نظم التقاعدین المدني والعسكري- الذین یشكلون ما یقارب نصف القوى العاملة، تقل بحوالي 15% من أجور العاملین المنظمین حسب بعض الدراسات.
كذلك تفید بعض الدراسات أن مستویات الأجور في القطاعین العام والخاص تراجعت منذ العام 2010 مقارنة مع ارتفاعات معدلات التضخم ومؤشر ارتفاع أسعار المستھلك.
للأسف یبدو أن ھذه الفرضیة ھي التي حكمت توجھات الحكومات المتعاقبة والحكومة الحالیة، بالضغط على شروط العمل، وعدم رفع الحد الأدنى للأجور الذي یقف منذ ما یقارب العامین ّ عند مستوى متدن جدا، یقل عن نصف قیمة خط الفقر المطلق للأسرة المعیاریة، وھي كذلك التي وجھت الحكومة ومجلسي النواب والأعیان لتمریر تعدیلات قانون العمل مؤخرا، والذي ضیق الخناق على العاملین، من خلال وضع المزید من القیود على حقھم في تشكیل نقابات والمشاركة في المفاوضة الجماعیة.
ھذا لا یعني أن القطاع الخاص لا یعاني من تحدیات وأعباء، فھنالك العدید منھا، ولكن التحدیات والأعباء تستوطن في أماكن أخرى، غیر تكلفة الأیدي العاملة؛ حیث صعوبة تأسیس الأعمال، وضعف سیادة القانون، والتدخلات خارج نطاق القانون، وارتفاع أسعار الفائدة، ومنافسة الحكومة للقطاع الخاص على الاقتراض الداخلي، وارتفاع تكالیف الطاقة والرسوم الجمركیة وغیرھا.
التجربة الأردنیة والعالمیة تفید أن المؤسسات الناجحة والمستمرة في عملھا والتي تتوسع وتحقق نجاحات ملموسة وأرباحا، ھي التي تعتني أكثر بالقوى العاملة -أجورا وتدریبا وحمایات اجتماعیة- والمؤسسات التي تھمل ھذا الملف ھي الشركات المتعثرة ودائمة الشكوى. وتكفي نظرة سریعة على شروط العمل في الشركات الناجحة للتحقق من ذلك.
آن الأوان للتفكیر العمیق وإعادة النظر بالعدید من الفرضیات الوھمیة التي یستند إلیھا صناع القرار عند رسم السیاسات العامة واتخاذ قراراتھم، ومنھا الفرضیة المذكورة أعلاه، والتي دفعت الأوضاع الاقتصادیة والاجتماعیة في الأردن الى مستویات صعبة جدا. ویجب علینا معالجة جذور المشاكل الحقیقیة، وتطویر سیاسات اقتصادیة واجتماعیة عادلة وتوافقیة تأخذ بعین الاعتبار مصالح مختلف مكونات المجتمع.
صحيفة الغد الأردنية، 2019/4/15