لا يخفى على أحد أن المعلم يضطر للاقتراض شهريا ليغطي تكاليف المعيشة التي ترتفع يوما بعد يوم، في ظل ثبات المداخيل وارتفاع معدلات التضخم.
ولا يضيف شيئاً القول إن العديد من المعلمين صاروا يبحثون عن مصدر دخل آخر، قد لا يليق بهم وبمهنتهم الجليلة التي لم يعد دخلها يكفيهم لتأمين الحد الأدنى من العيش الكريم.
وليس جديدا أن شريحة المعلمين باتت دون الطبقة الوسطى، رغم أنهم أساس في خلق وحماية هذه الطبقة المهمة للاستقرار السياسي والمجتمعي.
ويمكن كتابة الكثير عن المعاناة اليومية للمعلمين، نتيجة تراجع قوة مداخيلهم الشرائية بعد كل الزيادات التي طرأت على الأسعار خلال السنوات القليلة الماضية.
لكن كل ذلك لا ينفي حقيقة أن المعلمين لا يختلفون في شيء عن وضع جميع موظفي القطاع العام؛ عسكريين ومدنيين، باستثناء العاملين في المؤسسات المستقلة الذين يتمتعون بامتيازات كبيرة ورواتب مرتفعة، لا تقارن بتلك التي يتقاضاها المعلم أو أي موظف آخر في القطاع الحكومي، بما في ذلك الأطباء.
معاناة المعلم هي جزء من مشكلة هيكل الأجور في القطاع العام، متعددة الأوجه. فهذه الأجور، ابتداء، منخفضة لدرجة أدت إلى تسرب الكفاءات من القطاع، ليصمد فقط من لا يجد فرصة أخرى نتيجة ضعف الإمكانات.
أما الوجه الآخر، فيتمثل في أنه رغم عجز الأجور في القطاع العام عن تأمين عيش لائق لمن يتقاضاها، فإنها تكشف أيضا عورات التخطيط والتوظيف في هذا القطاع الذي أنهك الخزينة، بحيث بلغت نسبة إنفاق الحكومة على فاتورة الرواتب والتقاعد 2.5 مليار دينار، من إجمالي قيمة الموازنة العامة البالغة نحو 8 مليارات دينار، فيما يتجاوز حجم الانفاق الجاري 6 مليارات دينار.
وكل ما فعلته الحكومة أو ستفعله بخصوص الرواتب سيزيد المشكلة ويعقدها. فعملية إعادة الهيكلة التي كلفت الخزينة ما يزيد على 350 مليون دينار سنويا، لم تحسّن سلم الرواتب إلى مستوى يرتاح عنده صاحبها؛ إذ تبقى كل هذه الحلول، وفي ظل تضخم القطاع العام، عاجزة عن زيادة الأجور إلى المستويات اللائقة.
من حق الجميع، بمن فيهم المعلمون، المطالبة بتحسين مداخيلهم والحصول على علاوات إضافية، والتي تعد أحد المطالب لوقف إضراب المعلمين، مضافا إليها حزمة مطالب تقول الحكومة إنها نفّذتها. هذا من ناحية، لكن من الناحية الأخرى، لا يجوز أن يبلغ الأمر بالمعلمين حد تخوين وكَيل الاتهامات لكل من انتقد إضرابهم، خصوصا لناحية غياب التدرج وابتزاز الأهالي بأطفالهم، حتى قيل إن كل من ينتقد الإضراب موجه من الحكومة، ضمن حملة تجييش إعلامية ضد المعلمين.
ليست حملة تحريض، ولكنّ نقد النقابة أمر ممكن وغير محرّم، طالما أن قراراتها، وخصوصاً الإضراب، تمس حياة الناس وأرباب الأسر، وفي ظل حقيقة أن رواد مدارس القطاع العام هم أبناء أسر ليس وضعها المعيشي أفضل كثيرا من أوضاع المعلمين وأسرهم.
العدالة تقتضي أن يكون ثمة علاج طويل المدى من قبل الحكومة لقضية الإنفاق على الأجور، وإصلاح الاختلالات في رواتب الجميع، حتى لا تُسكِت المعلم بأن تحل مشكلته، ثم تجد نفسها أمام مطالب مشابهة من هذا النوع؛ فالحلول المجتزأة لا تحقق الإنصاف، بل تزيد التشوهات.
للمعلم خصوصية، هذا صحيح. لكن حق العيش الكريم مطلب عام، يجب على الحكومات تكريسه وتحقيقه، ضمن منظومة واحدة تشمل الجميع.
أرجو من المعلمين الأفاضل أو من يتعاطفون معهم عدم توجيه الشتائم والتهم كما حدث في المقال الماضي تحت عنوان "علاوة الطبشورة"؛ لأن هذا، أولا وقبل كل شيء، لا يليق بالمعلم ونقابته.