المرصد العمّالي الأردني- رزان المومني
وسط تزايد أعداد العاملين في القطاع العام على نظام التقاعد المبكر، وصل عدد المتقاعدين على هذا النظام من القطاع العام وحده 10.4 ألف متقاعد من إجمالي عدد المتقاعدين مبكراً البالغ عددهم 16 ألف و333 متقاعدا خلال العام الماضي 2023.
فيما وصل العدد التراكمي للمتقاعدين مبكرا إلى نحو 164 ألف و505 آلاف متقاعد في نسبة تزيد عن 59 بالمئة مقارنة بتقاعد الشيخوخة، وفقا لأرقام المؤسسة العامة للضمان الاجتماعي.
وتشير المؤسسة إلى أن هناك إقبالا متزايدا على التقاعد المبكر، وأن الرقم الإجمالي للرواتب التقاعدية زاد عن نحو 145 مليون دينارا شهريا، وناهزت فاتورة مدفوعات مؤسسة الضمان في العام الماضي قرابة ملياري دينار.
وجرت العادة بأن التقاعد المبكر هو نظام تقاعدي لأصحاب المهن الخطرة فقط، لكنه في الأردن يتعدى تلك الفئة العمّالية إلى المهن كافة من مشتركي الضمان الاجتماعي.
ولاحظ "المرصد العمّالي الأردني" خلال الفترة الماضية أن أغلب حالات التقاعد المبكر في القطاع العام لم تكن طوعاً برغبة من الموظفين، وإنما كانت قسراً، أي أنهم مرغمون على ذلك، فيما أغلب الحالات المرصودة من العاملين في قطاعي الصحة والتعليم.
وتؤكد الحالات بأن إرغام هؤلاء على التقاعد أثّر سلباً على حياتهم المعيشية والأسرية، إذ لا يسمح لهم بالعمل إلا بعد عامين على تقاعدهم، وأن بعضهم لم يتبقَّ إلا القليل من الوقت للحصول على تقاعد الشيخوخة عند سن 60 للرجال وسن الـ55 للنساء.
ويطالب متقاعدون وخبراء بتعديل الفقرة "ب" من المادة 173 من نظام الخدمة المدنية، التي تُجيز للمرجع المختص بالتعيين إنهاء خدمات الموظف الخاضع لأحكام قانون الضمان الاجتماعي "إذا استكمل شروط التقاعد المبكر بناءً على طلبه أو بدون طلبه"، وحذف عبارة "بدون طلبه" من الفقرة.
هذه الفقرة تتعارض وقانون الضمان الذي ألزم مؤسسة الضمان بتخصيص راتب التقاعد المبكر للمؤمّن عليه مستكمل الشروط بناءً على طلبه فقط وبمحض اختياره، بدون أن يُلزمه أحد على ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر.
كما تتعارض مع نظام الخدمة المدنية نفسه الذي لم يُشِر إلى أن "استكمال شروط التقاعد المبكر" ليس من أسباب انتهاء خدمة الموظف العام التي ذكرها النظام.
تقاعدت قسراً عند سن 53
لم يبق على تقاعد (م. أ) سوى عامين، وهي عملت معلمة في قطاع التعليم الحكومي مدةً تُقارب 28 عاماً وبعدها مديرة مدرسة في محافظة العقبة.
تقول (م. أ) في حديثها إلى "المرصد العمّالي الأردني" إن أسباب صدور قرار تقاعدها مبكراً غير موضحة وجاءت بتنسيب من إدارة الموارد البشرية، وفي الوقت ذاته جاءتها برقية شكر من وزارة التربية لحسن الأداء وهو ما اعتبرته "تضارب آراء".
وتوضح أنه لم يتبق على تقاعد الشيخوخة سوى عامين، فهي تبلغ من العمر 53 عاماً، وهذا جعلها تشعر بقلة اهتمام الوزارة بجهود الموظفين المتميزين.
وتشير (م. أ) إلى أن موضوع التقاعد ليس الآثار المادية المترتبة وإنما جوهر القرار نفسه، معتبرة قرار تقاعدها كان تصفية ليس أكثر.
وتطالب بتعديل الفقرة "ب" من المادة 173 من نظام الخدمة المدنية، التي تعطي الصلاحيات لمن لا يستحق بإنهاء خدمات الموظفين وإجبارهم على التقاعد المبكر بدون موافقتهم أو طلبهم.
تقاعد قسراً إثر قضية "النقابة"
أما محمد العضايلة الذي كان مدير نادي معلمي الكرك، وتجاوزت سنوات عمله في التعليم 25 عاماً، فجرى الاستغناء عن خدماته وصدر قرار بإحالته إلى التقاعد المبكر قسراً بعد موقفه من قضية "نقابة المعلمين" التي أثيرت منذ ثلاثة أعوام.
ويوضح العضايلة أن عدد اشتراكاته في الضمان بلغت 300 اشتراكا وعمره عندما تقاعد 47 عاماً، وتآكل من راتبه ما يُقارب الثلث؛ فقد كان يحصل على 900 ديناراً شهرياً، "أصبح راتبي بعد التقاعد 650 ديناراً، وتأثرت التزاماتي تجاه أسرتي واضطربت حياتي بشكل ملحوظ".
ويشير إلى أنه يُدّرس ثلاثة من أبنائه في جامعات خارج الأردن واثنين في المدرسة، إلى جانب التزامه بأقساط بنكية شهرية، ولا يعرف كيف يُكمل الشهر نتيجة إرغامه على التقاعد المبكر.
تقاعدت قسراً بأوج عطائها وخبرتها
بينما كانت نسرين تعمل ممرضة في مستشفى حكومي في العاصمة عمان، صدر قرار بإنهاء خدماتها فتقاعدت مبكراً قسراً العام الماضي بعد خبرة دامت 30 عاماً في القطاع الصحي.
تقول نسرين في حديثها إلى "المرصد العمّالي الأردني"، إن لديها الكثير من الخبرات وما تزال تستطيع أن تعطي وتعمل بجد، وأرغمت على التقاعد المبكر الذي أكل ما يُقارب ثلث راتبها.
وتوضح أن لديها التزامات أسرية ومعيشية مطلوبة منها شهرياً، فهي تدرس اثنين في الجامعات من أبنائها الخمسة وخُصم من راتبها بسبب التقاعد المبكر 300 دينار.
وتشير إلى أن عدد اشتراكاتها في الضمان بلغ 360 اشتراكا ولم يتبق سوى ثلاث سنوات لبلوغها سن تقاعد الشيخوخة؛ "هذا ظلم كبير، فبعد أن أفنيت عمري 52 عاماً تكون هذه مكافأتي وبدون توضيح أسباب التقاعد، استنادا لقرارات مجلس وزراء قديمة".
وتلفت إلى أنها حاولت إيجاد عمل آخر لتغطية الالتزامات المترتبة عليها، إلا أنه لا يسمح لها العمل مدة عامين، وبعد العامين لا يسمح لها العمل بذات المكان ويُخصم نسبة من راتبها التقاعدي حال عملت بأي مجال.
الضمان والاقتصاد يتأثران سلباً بالتقاعد
من جهته، يقول خبير التأمينات الاجتماعية والناطق الأسبق لمؤسسة الضمان الاجتماعي موسى الصبيحي لـ"المرصد العمّالي الأردني" إنه في آخر خمسة أعوام زادت أعداد موظفي القطاع العام الذين أنهوا خدماتهم بالتقاعد المبكر قسراً، وكثير منهم يرغبون بالاستمرار في العمل حتى إكمال السن القانوني للتقاعد.
ويوضح الصبيحي أن التقاعد المبكر يضر بالمؤمن عليه أولاً، ويُجبر عند إنهاء خدماته إلى الذهاب إلى التقاعد المبكر، فلا يكون لديه مصدر دخل آخر ويحتاج إلى دخل ليغطي كلفه المعيشية؛ "يقدم طلب للضمان يفيد بالتقاعد المبكر، ويرغم على ذلك بشكل غير مباشر ويحصل على راتب مخفض".
ويذهب إلى أن كثيرا من الرواتب والأجور ضعيفة بحسب بيانات الضمان، ما ينتج عنه رواتب تقاعدية أضعف، ما يضر بالاقتصاد الأردني ويزيد من نسب الفقر والعوز والأشخاص الباحثين عن العمل؛ "كثير ممن أنهيت خدماتهم على التقاعد المبكر ينافسون الشباب العاطلين عن العمل ويبحثون عن فرص للعمل وإن خالفوا قانون الضمان الاجتماعي".
ولا يدعو الصبيحي إلى إلغاء التقاعد المبكر بالمطلق، لأن هناك دائماً "من يمكن أن تضطره ظروفه إلى اللجوء إلى التقاعد المبكر"، كمن تُنهى خدماته بالقطاع الخاص وعمره يُجاوز 50 عاماً ولديه اشتراكات لعشرين أو ثلاثين عاماً وليس لديه عمل آخر.
ويقترح أن تنفذ المؤسسة حملات إعلامية توعوية بالتعاون مع أصحاب العمل والعمّال والنقابات عن أضرار التقاعد المبكر مثل حملة "بكّير على تقاعدك" وهناك ضرورة لأن تتغير الثقافة الاجتماعية حيال التقاعد المبكر.
ويؤكد ضرورة "تعديل" الفقرة "ب" من المادة 173 من نظام الخدمة المدنية التي تستخدمها الحكومة بطريقة غير صحيحة وبدون أي أسس، إلى جانب اصطدام الفقرة بالتشريعات الأخرى مثل قانون الضمان الاجتماعي الذي يعطي الخيار للمؤمن عليه فقط بالتقاعد المبكر.
ويشدد على ضرورة أن تتوقف الحكومة عن الإنهاء القسري لخدمات أي موظف عام استكمل شروط التقاعد المبكر، وأن تقصُر فقط على الموظف الذي يتقدم بطلب إنهاء خدماته رغبةً منه في إحالة نفسه على التقاعد المبكر.
ويلفت الصبيحي إلى أنه في حال استمرت الحكومة بإنهاء خدمات الآلاف من موظفي القطاع العام سنوياً ممن يستكملون شروط التقاعد المبكر فإن المركز المالي للضمان سيتأثّر سلباً وبصورة ملموسة خلال السنوات القليلة القادمة، وستتقلص الإيرادات التأمينية للمؤسسة ويتناقص الفائض التأميني السنوي تدريجياً إلى أن يتلاشى، ما ينعكس سلباً على استثمارات الضمان.
ويشير إلى أن أي خلل في المركز المالي للضمان سيدفع الكل الثمن وأولهم الحكومات؛ فهي مسؤولة وأكبر مشغل وأكبر صاحب عمل بالأردن وصاحبة مصلحة في استمرارية مؤسسة الضمان وقوة واستدامة نظامها التأميني والمالي اجتماعياً واقتصاديا ويجب عليها أن تدرك هذا الأمر.