الرئيسية > العلاج النفسي خارج حسابات شركات التأمين الصحي

العلاج النفسي خارج حسابات شركات التأمين الصحي

الاثنين, 29 أيار 2023
النشرة الالكترونية
Phenix Center
العلاج النفسي خارج حسابات شركات التأمين الصحي
المرصد العمالي الأردني - عائشة الغبن
بمجرد أن تجري مقابلة للحصول على عمل، يبادرك موظف الموارد البشرية بالثناء على أنظمة الحماية التي تتبناها الشركة، بدءا من امتياز الانضمام إلى الضمان الاجتماعي، (مع أنه إجباري في القانون).

ويصل به الأمر حدّ التباهي بنظام التأمين الصحي المتبع، ثم لا يدرك الموظف الجديد إلا متأخرا أن لهذا التأمين استثناءات وفترات انتظار قد تطيل فترات مرضه.

في البداية، يجب أن تحصل على موافقة لانضمامك للتأمين الصحي، إذ أن معظم أنظمة التأمين الصحي الخاص لديها شروط للانضمام، مثل العمر، إذ لا يجوز، غالبا، تأمين أي شخص فوق ال65، أو شخص مصاب بالسرطان أو بمرض مزمن عضال، وغيرها الكثير من الشروط.

بعد ذلك، عند تسلم عقد شركة التأمين الصحي تجد صفحة خاصة بالاستثناءات تتعدى بنودها العشرين، بدءا من استثناء تأمين الحوادث الناتجة عن نشاطات رياضية خطرة، والعلاجات التجميلية، وبعض العمليات المتعلقة بالأسنان وتصحيح النظر أو السمع، وصولا إلى محاولات الانتحار أو إيذاء النفس أو أي خلل عقلي أو نفسي وما يتبعه من أدوية مهدئة أو للأعصاب.

تبرر معظم شركات التأمين عدم شمول العلاج النفسي ضمن بوليصات تأمينها بتكلفته الباهظة، وما استثناء تأمين أكثر من عبوة دواء، ما عدا المضادات الحيوية، إلا تأكيد على أن شركات التأمين الصحي لا تهدف إلى حماية العاملين بقدر سعيها إلى تحقيق الربح.

"هذا الاختصاص غير معتمد عندنا"
هكذا كان رد الكثير من شركات التأمين التي تواصل "المرصد" معها للسؤال عن شمول الصحة النفسية بالتأمين، إذ أجمعت على أن كل ما يتعلق بالصحة النفسية من مراجعات أو أدوية أو كشفية لا يشملها التأمين الصحي الخاص.

الاحتراق الوظيفي.. عواقبه وآثاره
قبل نحو عامين شهد الأردن حادثة مؤلمة تحولت قضية رأيٍ عام، وهي حادثة وفاة العاملة "حمدة" بسبب الضغط النفسي الذي تعرضت له في بيئة العمل، وكان حرياً بهذه القضية، إضافة إلى أعداد الانتحارات المتزايدة سنويا، أن تشعل فتيل المطالبة بالاهتمام بقضايا الصحة النفسية. إلا أنها اعتُبرت كغيرها من أحداث آنية ينتهي الحديث عنها بمجرد تحويلها إلى القضاء أو بإصدار الأمر بإيقاف النشر عن القضية.

انفجار بـ"أم الدم الدماغية" أدى إلى "نزيف شديد في غشاء الدماغ" هو ما سبّب وفاة حمدة التي لم تكن تعاني من أي أمراض قد تؤدي إلى وفاتها، وفق تصريح محامي أهلها الموكل بقضية وفاتها آنذاك، إلا أن الإيذاء النفسي الذي تعرضت له بسبب الضغوطات الكبيرة بالعمل كان قادرا على إنهاء حياتها.

في حديثه إلى "المرصد العمالي الأردني" يعرض اختصاصي الطب النفسي والإدمان الدكتور عمر علقم لما يسمى "الاحتراق الوظيفي"، ويعرّفه بأنه "ظاهرة مهنية ناتجة كردة فعل على ضغوط العمل".

ويشير علقم إلى أن له العديد من الآثار والعواقب "كالإرهاق والقلق في مراحله الأولية". وينبه إلى أنه في حال عدم حصوله على العلاج المناسب "تتطور آثاره إلى الاكتئاب وظهور أمراض جسدية كأمراض القلب والسكري والضغط.. وقد تتدرج وصولا إلى التفكير بالانتحار". 

ويؤكد علقم أن لا علاقة للاحتراق الوظيفي بالإجهاد الجسدي كما يعتقد الكثيرون بأن العاملين في أعمال مُجهِدة هم فقط العرضة للإصابة بالاحتراق الوظيفي.

ويؤشر إلى أن ساعات العمل الطويلة وعدم الشعور بالأمان الوظيفي وتحمل مسؤوليات عدة وإهمال الحياة الشخصية والاجتماعية على حساب العمل، إضافة إلى قلة المكافآت والحوافز، جميعها أسباب تؤدي للاحتراق الوظيفي.

ولاحظ أن "أكثر من 40 بالمئة تقريبا من مراجعي الأطباء النفسيين يعانون من الاحتراق الوظيفي" 
ويوضح علقم أنه في حال وصول الشخص إلى"مراحل متقدمة من الاحتراق الوظيفي تجري الاستعانة بالتدخل الدوائي"؛ ما يعني أن تكلفة العلاج النفسي في مراحله الأولية هي أقل من تكلفة علاج عواقبه.

وهو يرجح  أن يكون سبب استثناء العلاج النفسي من بوليصات التأمين الصحي الخاص "سعر الأدوية النفسية الباهظ"، ويستدرك في الوقت ذاته بتوضيح أن أجر الكشفية (أول مراجعة للطبيب) التي تعادل 50 دينار "تدفع لمرة واحدة فقط"، ثم يجري اتباع التسعيرة الموافَق عليها من قبل نقابة الأطباء وهي تقدر بنصف مبلغ الكشفية تقريبا، أي 25 دينارا".

ويضيف علقم إلى هذا السبب أسبابا أخرى؛ منها: "خوف شركات التأمين من حالات النصب والاحتيال" لكون العلاج النفسي أمرا "غير ملموس ولا يمكن التثبت منه إلا بتقارير طبية".

نوار، ممرضة في القطاع الخاص، تعاني من ظروف عمل أرهقتها طوال سنوات عملها الأربع عشرة.

 تقول نوار إن ساعات العمل الطويلة، التي قد تمتد إلى عشر ساعات يوميا بدون فترات راحة، بالإضافة إلى منع الإجازات بشكل قطعي خلال أشهر معينة في السنة، وهذه مجتمعة جعلتها تفكر بطلب المساعدة من مختص.

كان بحث نوار يقصر على جلسات مع "مدرب حياة" بهدف مساعدتها على تنظيم مسؤولياتها اليومية، إلا أنها وبعد البحث المطول لم تجد ما هو أقل من 200 دينارا لبضع جلسات، ما جعلها تتراجع عن قرارها.

كم تنفق الأسرة الأردنية على العلاج الصحي؟
يظهر تقرير مسح نفقات ودخل الأسرة الأردنية الصادر من دائرة الإحصاءات العامة لعام 2017، أنه "كلما زاد حجم الأسرة قل حجم الإنفاق على الصحة"، ما يظهر أن الأسر تنفق على الصحة فقط في حال توافر المال.

يكلف التأمين الصحي الخاص الموظف سنويا ما لا يقل عن 300 دينارا، إلا أن استثناءاته الكثير تُجاوز فوائده وتضعف من قيمته.

يؤكد خبير التأمينات والحماية الاجتماعية موسى صبيحي أن منظومة التأمين الصحي في الأردن "تعاني من تشوهات عدة"، مما يستدعي "إنشاء هيئة وطنية للتأمينات الصحية".

وفي حديثه إلى المرصد العمالي الأردني، يوضح صبيحي أن الهدف الرئيسي للهيئة المقترحة أن تنسق التأمينات الصحية المختلفة في المملكة، حيث أن "ثلث المواطنين لديهم أكثر من تأمين صحي واحد"، وثلث آخر لديهم تأمين صحي واحد فيما الثلث الأخير لا يملك أي تأمين صحي".

ويشدد صبيحي أيضا على أن "وجود الهيئة سيحد من الهدر في التأمينات الصحية".

في حديثه إلى "المرصد العمالي الأردني" عن نظام التأمين الصحي في الأردن، يقول خبير السياسات الصحية الدكتور يوسف زوانه إنه وبسبب عدم وجود تأمين صحي مدني شامل، يُنظر إلى التأمين الصحي الخاص بأنه هو الحل الوحيد، مع أنه "يُفترض أن يكون تكميليا وليس أساسيا".

ويعتقد زوانه أن غياب قانون ينظم العلاقة بين شركات التأمين الصحي والمؤمّن عليهم "يسمح بتغول طرف على الآخر"، لذلك "لا بد من وجود قانون لحماية طرفي العلاقة من أي ضرر".

الصحة النفسية في التشريعات المحلية:
يصدر "المرصد العمالي الأردني" سنويا "تقرير السلامة والصحة المهنية في العمل"، الذي يكشف باستمرار خلو بيئات العمل في سوق العمل الأردني من الفحوصات النفسية الدورية للعاملين، وغياب إجراءات داخل بيئة العمل تخفف الضغط النفسي على العاملين، وتغافُل أصحاب العمل عن احتمال إصابة العاملين والعاملات بالاضطرابات النفسية.

وفيما يتعلق بالتشريعات الأردنية الخاصة بقطاع العمل، لا نجد ما يدعو لمراعاة الناحية النفسية في بيئة العمل، حيث تجد ما ينص على السلامة الجسدية فقط وتناسيا للانتهاكات النفسية و"الاحتراق الوظيفي" الذي قد يتعرض إليه العامل، في حين يأخذ بالاعتبار فقط حالات الوفاة بسبب الإيذاء النفسي والمعنوي والإكراه ضمن مواد في قانون العقوبات الأردني.

إلا أن التعديلات الأخيرة لقانون العمل عالجت جزءا من مشاكل الصحة النفسية في أماكن العمل، حيث أضيفت فقرة جديدة على المادة (29) من القانون، تتضمن تعريفا للتحرش الجنسي.
 وتم تضمين الضرر النفسي في التعريف، بأنه "أي ممارسة أو سلوك جسدي أو شفهي ذي طبيعة جنسية أو التهديدات المرتبطة به ويمس كرامة العامل ويكون مُهينا له ويؤدي إلى إلحاق الضرر الجسدي أو النفسي أو الجنسي به".

وبذلك أصبح هناك اهتمام بقضايا الصحة النفسية في عالم العمل، لأن المادة (29) تفرض عقوبات على صاحب العمل أو من يُمثّله في حال قام بالضرب أو ممارسة أي شكل من أشكال الاعتداء الجنسي أو التحرش الجنسي على العاملين المستخدمين لديه.

الصحة النفسية في القوانين الدولية:
في أيلول الماضي دعت منظمتا العمل الدولية والصحة العالمية إلى اتخاذ إجراءات عالمية ملموسة لمعالجة الصحة النفسية في العمل، ونشرتا مبادئ توجيهية وأوصتا بتدريب المديرين لبناء قدراتهم للحد من بيئات العمل المجهدة والاستجابة للعمال الذين يواجهون أي ضائقة نفسية. 

كما جرى التوصية بحماية الصحة النفسية والعقلية في بيئة العمل ودعم العاملين المصابين بأمراض نفسية، وإعادة توجيههم حتى يتمكنوا من المشاركة والازدهار في سوق العمل.

هذه التوصيات جاءت بعد إعلان منظمة الصحة العالمية أن 12 مليار يوم عمل تُهدر سنويا بسبب الاكتئاب والقلق، مما يكلف الاقتصاد العالمي ترليون دولار واحدا بسبب قلة الانتاجية.

ويذكر تقرير منظمة الصحة العالمية عن الصحة العقلية، الذي صدر في حزيران الماضي، أن 15 بالمئة من البالغين في سن العمل يعانون من اضطراب عقلي، ما ينعكس بتضخم القضايا المجتمعية سلبيا.

ويشير التقرير إلى أن التمييز وعدم المساواة والتنمر والعنف النفسي جميعها تؤثر على الصحة العقلية لدى العامل وبالتالي التأثير على أداء الشخص وإنتاجيته.

وتوفر اتفاقية منظمة العمل الدولية إطارا تشريعيا للسلامة والصحة المهنيتين، ومع ذلك، فإن تقرير الصحة العقلية لمنظمة الصحة العالمية يكشف أن 35 بالمئة فقط من البلدان أبلغت عن وجود برامج وطنية لتعزيز الصحة العقلية والوقاية منها.

ووفق تقرير "الصحة العالمية" فقد تسببت جائحة "كوفيد 19" في زيادة نسبة القلق العام والاكتئاب في جميع أنحاء العالم بنسبة 25 بالمئة، وكشف أيضا عن مدى عدم استعداد الحكومات لمواجهة تأثير الجائحة على الصحة العقلية، إضافة إلى النقص العالمي المزمن في موارد الصحة العقلية".

ففي 2020 أنفقت حكومات العالم نحو اثنين بالمئة فقط من ميزانيات الصحة على الصحة العقلية، بينما استثمرت البلدان ذات الدخل المتوسط الأدنى أقل من واحد بالمئة.

الصحة النفسية حالها كحال الإصابة الناجمة عن زلزال أو حرب أهلية، تدخل ضمن استثناءات بوليصات التأمين، وكأن التعرض لها يعتبر هو ظاهرة استثنائية مدمرة.

 من هنا تأتي أهمية إقرار قانون للرقابة على نظام التأمين الصحي الخاص بمختلف بنوده للحد من التغول وبهدف حماية الحقوق الأساسية، بما فيها تأمين العلاج النفسي.