المرصد العمالي الأردني –
بعد يوم باريس الأسود حيث بلغت الإضرابات والاحتجاجات ذروتها في العاصمة الفرنسية باريس، ومع اعتقال ما يقارب 500 شخصاً وإصابة أكثر من 400 من عناصر الشرطة في أعمال العنف التي شهدتها العاصمة يوم الخميس الماضي، تستمر الاحتجاجات في دول عدّة في القارة العجوز.
احتجاجات تنتقل من دولة إلى أخرى بين دول أوروبا، وإضرابات عمالية ونقابية اجتاحت العديد من القطاعات الحيوية، من أبرزها المطارات وسكك الحديد والطاقة والصحة والتعليم، وفي المقابل تقف الحكومات الأوروبية عاجزة أمام مطالب المحتجين بسبب الأزمات الاقتصادية المتلاحقة.
في بريطانيا، بدأت الاعتصامات احتجاجاً على غلاء المعيشة في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي بالتصاعد تدريجياً، وصولاً إلى أكبر إضراب عمالي منذ 10 سنوات في بريطانيا مع بداية شباط/ فبراير 2023، حيث امتنع أكثر من نصف مليون بريطاني من الذهاب إلى أعمالهم احتجاجاً على تدني الأجور.
شاركت سبع نقابات عمّالية في الاحتجاجات التي كانت أبرز مطالبها تعديل الأجور حتى تتناسب مع تضخم الأسعار العالمي.
وفي تصريح لبول نواك الأمين العام لمؤتمر نقابات العمال الذي يضم تحت مظلته عدداً من النقابات قال: "بعد سنوات من انخفاض الأجور القاسي، شهد الممرضون والمعلمون والملايين من الموظفين الحكوميين الآخرين تدهوراً في مستوياتهم المعيشية ويتأهّبون ليعانوا مزيدا من البؤس بسبب الأجور".
أما في فرنسا، فبدأ الحراك النقابي ضد تعديل نظام التقاعد الذي طرحته حكومة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، إذ يفرض رفع سن التقاعد تدريجياً من 62 إلى 64 عاماً بواقع 3 أشهر سنوياً ابتداءً من الأول من أيلول/ سبتمبر 2023، كما ينص على زيادة مدة الاشتراكات المطلوبة في الضمان الاجتماعي من 42 إلى 43 عاما، كي يحصل المتقاعد على معاشه التقاعدي كاملا، أي بدون أن تلحق به أي خصومات.
بالرغم من الاحتجاجات التي استمرت على مدار الأسبوعين الماضيين والتي وصلت إلى أكثر من مليون متظاهر في بداياتها، وفق تصريحات النقابات العمالية الفرنسية، إلا أنه جرى تمرير القانون من قبل السلطة التنفيذية من دون تصويت في الجمعية الوطنية استناداً إلى المادة 49.3 من الدستور التي تسمح بتبني نص من دون التصويت عليه في الجمعية الوطنية، ما لم يتم الاجماع على اقتراح بحجب الثقة وبالتالي الإطاحة بالحكومة.
ومع تمرير القانون تجددت المظاهرات يوم الخميس الماضي، إذ قدّرت النقابات عدد المتظاهرين في أرجاء البلاد 3.5 ملايين.
أعمال العنف استمرت على مدار اليومين الماضيين وبخاصة رشق الحجارة والقوارير وإطلاق المفرقعات على قوات الأمن، مع تحطيم للواجهات ومحطات ركاب الحافلات وإحراق حاويات النفايات.
كيف قابلت الحكومات الإضرابات المتكررة؟
في بريطانيا، تسعى الحكومة إلى دراسة قانون جديد للحد من الإضرابات، لتقليل الضرر الكبير الواقع على الاقتصاد المحلي بسبب الاحتجاجات المتكررة، حيث أن الحكومة البريطانية أكدت أن المفاوضات هي النهج الصحيح للوصول إلى حل يرضي جميع الأطراف وليس الإضرابات.
أما فرنسا فقد أعلنت الشرطة الفرنسية حظر الاحتجاجات أمام البرلمان الأسبوع الماضي، في حين أكد الرئيس الفرنسي ماكرون، الأربعاء الماضي، أنه لن يرضخ للعنف وأن الإصلاحات كانت ضرورية من أجل التمويل العام.
دولٌ أخرى أيضا تشهد إضرابات عديدة، ففي ألمانيا شهدت المطارات إضرابات جزئية للعمال المطالبين بتحسين الأجور تسببت في إلغاء وتأجيل آلاف الرحلات الجوية الشهر الماضي، وحتى قبل يومين حيث شهدت أربعة مطارات ألمانية إلغاء أو تأجيل أكثر من 680 رحلة طيران بسبب دخول العمال في إضراب جديد، ودعت نقابة العاملين في الخدمات الألمانية "فيردي" إلى هذه الإضرابات في ظل استمرار فشل المفاوضات بشأن أجور عمال أمن الطيران واستمرار الخلاف بشأن الأجور في القطاع العام.
وفي بلجيكا، تظاهر أكثر من 12 ألف عامل في القطاع العام في بروكسيل في فبراير الماضي، مطالبين بسد العجز في القوى العاملة، وفقاً لصحيفة "إندبندنت" البريطانية، ويذكر أيضاً مظاهرات "يوم العدالة" في بلجيكا في تشرين الأول/ أوكتوبر الماضي حيث تجمع الآلاف في محطة بروكسيل احتجاجاً على ارتفاع الأسعار في العاصمة البلجيكية، بالإضافة إلى مطالب النقابات بمزيد من القوة الشرائية في القطاع العام، والضغط من أجل زيادة الأجور وتحسين ظروف العمل.
أما إسبانيا، فنفذ 160 مراقباً للحركة الجوية إضراباً في فبراير الماضي لمطالبة الحكومة بزيادة مؤشر أسعار المستهلك، وإزالة 12 إلى 15 بالمئة من تخفيضات الأجور، بالإضافة لتظاهر الآلاف من العاملين في القطاع الصحي في العاصمة مدريد احتجاجاً على نقص الموظفين والمستلزمات رافعين شعار "الصحة لا تُباع".
بعد أن شهدت البلاد أول احتجاج كبير منذ بداية أزمة غلاء المعيشة في نوفمبر الماضي، حيث احتشد الآلاف من الإسبان في مدريد للمطالبة بزيادة الأجور، وفي البرتغال خرج عشرات الآلاف من موظفي قطاع التعليم في القطاع العام في مسيرة للمطالبة بزيادة الأجور وتحسين ظروف العمل.
ما أسباب هذه الإضرابات؟
تتشابه الأسباب تقريباً الداعية إلى الاحتجاجات المستمرة في الدول الأوروبية وهي ارتفاع أسعار الغاز والطاقة والمواد الغذائية على خلفية تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، ما أدى إلى تفاقم معدلات التضخم، وزيادة تكاليف المعيشة، وعدم قدرة الحكومات على زيادة الأجور، ساهمت جميعها في تأجيج الإضرابات في دول عدة في أوروبا.
وزير الدولة البريطاني السابق، توبياس إلوود قال في تصريح له أن أسباب الأزمات الاقتصادية التي تشهدها الدول الأوروبية هي بسبب تبعات حرب روسيا على أوكرانيا وجائحة كوفيد-19 التي لم يتعافى العالم من أضرارها بعد.
وبيّن أن العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي على روسيا لم تضر روسيا فقط بل أضرت باقتصاد العالم أجمع، إذ أنه في العام الماضي، مع ارتفاع مؤشر أسعار الطاقة العالمي إلى أكثر من ثلاثة أضعاف سعره الأساسي لعام 2016، اندلعت 6900 احتجاج بسبب أسعار الوقود المرتفعة.
معظم الاحتجاجات تم تنظيمها من قبل النقابات العمالية والأحزاب اليسارية في أوروبا، إضافة إلى أن القطاعات المحتجة معظمها صناعية، لذلك تعتبر اضرابات اقتصادية، إلا أنه وبالنظر إلى تاريخ ثقافة العمل الأوروبية فإن الإضرابات والنقابات تعد جزءاً أساسياً منها، حيث أن العديد من الحقوق العمالية في أوروبا جرى تحصيلها بعد الإضرابات والاحتجاجات.