المرصد العمّالي الأردني - رزان المومني
يشكّل المتقاعدون مبكرا في الأردن ما نسبته 63 بالمئة من إجمالي المتقاعدين واصلاً في آخر عدد له إلى 160 ألف متقاعد ومتقاعدة من إجمالي المتقاعدين والبالغ عددهم 259 ألفا، في ظاهرة توسّعت لتتحوّل أحيانا إلى أداة استبعاد وظيفي.
ورغم أن نظام التقاعد المبكر وُضع في الأصل ليشمل أصحاب المهن الخطرة تحديدا، فإن تطبيقه في الأردن توسّع ليطال شرائح واسعة من العاملين، ولا سيما في القطاعين الصحي والتعليمي بالقطاع العام، حيث سُجِّل تزايد ملحوظ في أعداد المتقاعدين مبكرا، بعيدا عن حصره في المهن التي تقتضي طبيعتها هذا النوع من التقاعد.
فيما رصد "المرصد العمّالي الأردني" في الفترة الأخيرة تزايد حالات الإحالة القسرية للتقاعد المبكر، خصوصاً في قطاعي التعليم والصحة، حيث أُجبر موظفون وغالبيتهم يعملون في القطاع العام على إنهاء خدماتهم دون رغبتهم أو تقدمهم بطلب رسمي.
إحالات مفاجئة دون توضيح.. وتراجع دخل الأسر
تظهر شهادات المتقاعدين مبكراً معاناتهم نتيجة إحالتهم المفاجئة إلى التقاعد المبكر، رغم اقترابهم من سن التقاعد القانوني وتمتعهم بسجل مهني متميز، ما أثر بشكل مباشر على استقرارهم المعيشي والأسري، خصوصاً وأن التشريعات تمنعهم من العمل لمدة عامين بعد التقاعد.
يؤكد متقاعدون في حديثهم لـ"المرصد العمّالي الأردني" أن قرارات الإحالة صدرت دون توضيحات كافية، ما أربك خططهم الحياتية والمالية وأدى إلى خسائر كبيرة في رواتبهم التقاعدية، بيد أنهم يعانون صعوبة في تأمين التزاماتهم الأسرية والمعيشية.
وينتقدون ما وصفوه بسياسة الإحلال والتدوير التي تغلّب الأرقام على الكفاءة، ويشيرون إلى أن القرار حرمهم من حقهم في استكمال سنوات خدمتهم ومساهمتهم في تطوير مؤسساتهم.
"لم أتوقع أن تكون مكافأتي بعد سنوات من العطاء، هي قرار تقاعد مفاجئ"، هكذا تستهل فاطمة حديثها لـ"المرصد العمّالي الأردني" التي عملت معلمة ثم مشرفة تربوية لأكثر من 30 عاماً في وزارة التربية والتعليم.
فاطمة، التي تبلغ من العمر 54 عاماً، لم يتبق لها سوى عام واحد لبلوغ سن التقاعد القانوني، لكنها أُحيلت للتقاعد المبكر دون توضيح رسمي، رغم حصولها على كتب شكر وتميّز خلال خدمتها.
وتؤكد فاطمة أن القرار أربك خططها وأثّر على أوضاعها المالية، خصوصاً أنها مسؤولة عن إعالة والدتها وأحد أبنائها الذي يدرس في الجامعة، مشيرة إلى أنها فقدت نحو ربع راتبها التقاعدي بسبب هذا القرار.
أما الممرض سامر، الذي عمل لأكثر من 28 عاماً في أحد المستشفيات الحكومية في محافظة الزرقاء، فقد صُدم بقرار إحالته للتقاعد المبكر.
ويقول سامر في حديثه لـ"المرصد العمّالي الأردني" إنه كان يعمل على تطوير مهارات الكادر التمريضي، وعلى الرغم من سنوات خبرته الطويلة فإنه ما يزال قادراً على العطاء والعمل.
ويوضح أن إدارة المستشفى أبلغته بالقرار دون سابق إنذار، وعند سؤاله عن السبب قيل له إنه "ضمن سياسة الإحلال والتدوير وحل جزء من مشكلة البطالة".
سامر الذي يبلغ من العمر 50 عاماً خسر ما يُقارب 35 بالمئة من راتبه، ويواجه حالياً صعوبة في توفير متطلبات أسرته المكونة من 6 أفراد، إلى جانب التزامه بأقساط قرض منزلي.
بينما يوسف، وهو موظف سابق في دائرة حكومية، لم يكن يتوقع أن يُنهى مساره المهني قبل الأوان، رغم أنه لم يتبق له سوى ثلاث سنوات فقط على تقاعد الشيخوخة.
يوسف الذي بدأ العمل قبل أكثر من 25 عاماً، فوجئ بقرار التقاعد المبكر "ضمن قائمة شملت عدداً من الموظفين ممن تجاوزت خدمتهم 20 سنة".
يقول لـ"المرصد العمّالي الأردني" إنه لم يكن مستعداً نفسياً أو مالياً، وفقد التزاماته بتعليم أولاده الثلاثة في الجامعات، والآن لا يعرف كيف يوفّي هذه الالتزامات.
ويلفت إلى أن المشكلة الكبرى التي تواجهه هو أنه لا يستطيع العودة لسوق العمل بسهولة، وحتى إن فعل ذلك سيُخصم من راتبه التقاعدي وهو قرار "مجحف وجائر" على حد وصفه.
عبء على الضمان وسوق العمل
تشير أرقام المؤسسة العامة للضمان الاجتماعي إلى أن حجم التقاعد المبكر في الأردن يتسع بوتيرة مقلقة، إذ بلغ عدد المتقاعدين مبكراً 160 ألف متقاعد ومتقاعدة من إجمالي عدد المتقاعدين البالغ 259 ألف متقاعد ومتقاعدة، والذين يشكلون ما نسبته 63 بالمئة من إجمالي المتقاعدين.
وفي هذا السياق، يؤكد الناطق الإعلامي لمؤسسة الضمان الاجتماعي محمود المعايطة إلى "المرصد العمّالي الأردني" إن المادة 64 من قانون الضمان الاجتماعي والتي تتعلق بتنظيم أحكام وشروط الحصول على راتب التقاعد المبكر تحتاج إلى تعديل.
ولاحظ المرصد العمّالي الأردني أن معظم حالات التقاعد المبكر في القطاع العام لا تكون طوعية، بل نتيجة ضغوط وسياسات إحلال، وبخاصة في قطاعي الصحة والتعليم، ما يجعل الموظفين يغادرون عملهم قسرا رغم أن كثيرا منهم كانوا قد قاربوا على سن التقاعد الوجوبي.
بدوره، يقول خبير التأمينات الاجتماعية موسى الصبيحي، في حديثه لـ"المرصد العمّالي الأردني" إن التوسع في التقاعد المبكر القسري له تبعات سلبية على المتقاعدين والمتعطلين عن العمل والاقتصاد الوطني والمؤسسة العامة للضمان الاجتماعي ذاتها.
ويوضح أن ضعف الأجور الأساسية يؤدي إلى ضعف الرواتب التقاعدية، ما يُسهم في رفع معدلات الفقر والبطالة، لأن المتقاعدين مبكراً ينافسون المتعطلين عن العمل على فرص العمل.
ويلفت إلى أن الأفراد بعد التقاعد يرغبون في البحث عن عمل ثاني وربما يكون في قطاعات العمل غير المنظمة أو بعمل منظم دون إبلاغ مؤسسة الضمان الاجتماعي بذلك، حتى يوفون احتياجات والتزامات أسرهم، ولديهم خبرة ويقبلون برواتب أقل ويزاحمون الباحثين والمتعطلين عن العمل في الحصول على فرص العمل.
ويوضح الصبيحي أن المشكلة تكمن في الفقرة "ب" من المادة 173 من نظام الخدمة المدنية، التي تجيز للمرجع المختص بالتعيين إنهاء خدمة الموظف إذا استكمل شروط التقاعد المبكر، سواء بناءً على طلبه أو بدون طلبه، مشددا على ضرورة تعديل هذه الفقرة باشتراط موافقة الموظف فقط.
ويؤكد أن الفقرة تصطدم بالتشريعات الأخرى مثل قانون الضمان الاجتماعي الذي يعطي الخيار للمؤمن عليه فقط بالتقاعد المبكر، مطالباً بوقف إنهاء الخدمات بشكل قسري، وحصر قرار التقاعد المبكر بطلب الموظف فقط.
ويشير إلى أن الاستمرار في هذه السياسة سيؤدي إلى تآكل الفائض التأميني لدى مؤسسة الضمان وتراجع استثماراتها، وسيتأثر المركز المالي للضمان سلباً بصورة ملموسة خلال السنوات القادمة، وستتقلص الإيرادات التأمينية للمؤسسة ويتناقص الفائض التأميني السنوي تدريجياً إلى أن يتلاشى، ما ينعكس سلباً على استثمارات الضمان.
ثقافة خاطئة ومقلقة للتقاعد المبكر
يُظهر استطلاع رأي أجرته المؤسسة العامة للضمان الاجتماعي عبر موقعها الإلكتروني منذ سنوات، أن 87 بالمئة من المشاركين يؤيدون التقاعد المبكر بالمطلق دون حصره بالمهن الخطرة أو الحالات القسرية، وهو ما اعتبرته المؤسسة حينها مؤشرا مقلقا على نظرة سائدة قد تُهدد ديمومة النظام التأميني.
وتعرب المؤسسة عن أسفها لما وصفته بثقافة مجتمعية مغلوطة تتعامل مع التقاعد المبكر بوصفه ميزة يجب اغتنامها، لا كإجراء استثنائي لمعالجة حالات الخروج الاضطراري من سوق العمل.
وتوضح المؤسسة أن التوسع في اللجوء للتقاعد المبكر يؤدي إلى إضعاف سوق العمل بحرمانه من خبرات تراكمية، ويقلص من فرص حصول المتقاعدين على رواتب أعلى كانوا ليحصلوا عليها لو استمروا في العمل حتى سن متقدمة.
وتؤكد المؤسسة أن استمرار هذا النمط من التقاعد في ظل تدني نسب التشغيل، يُهدد بتآكل المركز المالي للضمان، داعية إلى إعادة النظر في ثقافة التقاعد المبكر بما يحافظ على ديمومة النظام التأميني واستقراره الاقتصادي والاجتماعي.