الرئيسية > باليوم العالمي للصحة النفسية.. كيف تستقبل بيئة العمل المرضى النفسيين؟

باليوم العالمي للصحة النفسية.. كيف تستقبل بيئة العمل المرضى النفسيين؟

الاحد, 10 تشرين الأول 2021
النشرة الالكترونية
Phenix Center
باليوم العالمي للصحة النفسية.. كيف تستقبل بيئة العمل المرضى النفسيين؟
المرصد العمّالي الأردني - أحمد ملكاوي وندى أبو قورة 
بعد تجربة عملين مختلفين خاليين من بيئة لائقة نفسيا، قررت ناديا (اسم مستعار) ابنة الـ25 عاماً التوجه إلى الأعمال المستقلة، أو ما يعرف العمل بالقطعة، لضمان عدم التعامل مع بيئة ملزمة بساعات ومكان محددين غير ملائمين للتعامل مع الاضطراب النفسي الذي أصابها قبل خمس سنوات.

أصيبت ناديا باضطراب ثنائي القطب النفسي، بدأت بموجة اكتئاب شديدة تبعتها موجة هوس مرتفعة لتستمر هاتان الحالتان بالتناوب عليها وتزيد من مشكلاتها النفسية التي أثرت لاحقاً على حياتها العاطفية والعملية والعائلية بشكل كبير.

ويعرف اضطراب ثنائي القطب بأنه موجات من الهوس بتقلبات مزاجية خفيفة أو عالية بالإضافة إلى موجات من الإكتئاب الذي يفهم على أنه الانخفاضات العاطفية.

 ويصاب به الأشخاص جراء الضغوطات النفسية الناجمة عن العمل والمجتمع الخارجي الذي لا يلبي مراده، وبخاصة في مكان العمل.
 ويؤكد الطبيب النفسي عبد الله أبو العدس أنّ نحو 30% من الحالات المصابة بالاضطرابات النفسية والمشخصة حول العالم مرجعها بيئة العمل غير المهيأة.

بيئات عمل غير لائقة نفسياً
بالعودة لحالة ناديا؛ فإنّ عدم تعامل صاحب العمل مع حالتها النفسية بشكل جدي عامي 2018 و2019 وزيادة الضغط النفسي والطلبات رغم انتهاء ساعات العمل ومعرفته بحالتها النفسية، أدى بها إلى محاولة الانتحار عدة مرات برمي نفسها من فوق أحد الجسور في عمّان، تبعتها محاولات إيذاء النفس بالضرب والجروح، وتجربة التدخين.

وفقاً لدراسة بناء بروتوكول "تشخيصي – قياسي" من خلال دراسة العلاقة بين الاضطرابات السيكوسوماتية والضغط النفسي لدى العمال في الجزائر، فإنّ دائرة المعارف البريطانية تعرّف الاضطراب النفسي الجسدي بأنـه "الاسـتجابة الجسمية للضغوط الانفعالية التي تأخذ شكل اضطرابات جسمية مثل الربـو وقرحـة المعدة وضغط الدم المرتفع والتهاب المفاصل الروماتيزمي وقرحة القولـون والحساسـية، وغيرها. وتعد فئة العمال هي الفئة الأكثر تعرضاً للضغط النفسي كضـغط المهنـة وتدني الأجر ومسؤولية الأسر.

وتشير الدراسة إلى أن "مشكلة بيئات العمل تكمن في أن حدود الأذى تجاوزت المهام الوظيفية التي يقوم بها كل شخص أثناء عمله، فالعمل بحد ذاته ليس هو المشكلة، وإنما مكان العمل لم يعد محتملًا من الناحية النفسية".

تخلو بيئات العمل في سوق العمل الأردني من الفحوصات النفسية الدورية للعاملين، أو إلى إجراءات داخل بيئة العمل تخفف الضغط النفسي على العاملين كالرحلات الترفيهية والإجازات الكافية، فضلاً عن عدم اهتمام أصحاب العمل باحتمال إصابة العاملين والعاملات بالاضطرابات النفسية، وفق الدكتور أبو العدس.

ويقول أبو العدس لـ"المرصد العمالي الأردني" إن حالات الاضطرابات النفسية المشخصة في الأردن تصل إلى نحو 25% من إجمالي عدد السكان في حين أنّ نحو 30% من الحالات المصابة باضطرابات نفسية مشخصة حول العالم سببها بيئة عمل غير لائقة أو مهيأة نفسياً لراحة العامل، حيث تخلو من الفحوصات الدورية والتأكد من أهلية العامل دوريا لمعرفة مدى أهليته للوظيفة وقدرتها على إدارة شؤون العمل لضمان عدم انعكاسها سلباً على إنتاجه.

أسباب تفاقم الاضطراب؟
ليس ضغط العمل أو طلبات المديرين وحدها التي تجعل بيئة العمل سيئة على الصعيد النفسي، فرغم اعتبار العشرينية (يارا) أفضل الموظفات في إحدى المنظمات، إلّا أنّها ما تزال تعاني من معاملة زملائها وزميلاتها في العمل على أنها "مريضة ومعقدة نفسيا" لكونها مصابة باضطراب "الرهاب الاجتماعي" ويستمرون بالضغط عليها لخوفهم من أن تشغل مواقعهم.

كانت يارا تخفي اضطرابها بالتكلم بشكل سريع ودمج بعض الكلمات العربية بالإنجليزية لإظهار ثقتها بنفسها.

يوميا تفكر يارا بترك العمل، إلّا أنّ خوفها من بقائها بلا دخل يؤرقها ويجعلها تعود عن القرار وبخاصة في ظل استمرار زملائها بقول عبارة "اللي مثلها لازم يروح على طبيب نفسي"، بعد معرفتهم بأنها لجأت إلى طبيب نفسي مختص.

هذه المعاملة دفعتها إلى التراجع عن العلاج وعدم الحصول عليه رغم إصرار الطبيب على ضرورته لتحسين حالتها والتخفيف من حدة الاضطراب.

أما ناديا، فقد اعتزلت العالم الخارجي مدة ثلاثة أشهر لم تتواصل فيها حتى مع أصدقائها المقربين، ولم تجد عملاً يناسبها مدة عام مع استمرار الجلسات والأدوية بتوصية طبية، استطاعت خلالها السيطرة على نوبات الهوس والاكتئاب، قبل أن تجد عملاً جديداً لم تستطع فيه يوماً الإفصاح عن إصابتها بالمرض خشية سخرية زملائها واستغلالها.

زادت وتيرة العمل المنتظم والمواجهة للموظفين من حدة نوبات الاكتئاب والهوس لديها بشكل يوميّ في ظل تزايد ضغوطات العمل ومطالب مديرها دون أن يهتم كذلك للحالة النفسية، ما جعلها تترك عملها قبل انقضاء عام واحد.

في حديثه عن الحالتين السابقتين، لم يستغرب أبو العدس من ردات الفعل، وما كان منه الّا أن وجه سؤالاً إلى أصحاب العمل والمدراء، وهو: "كيف سيشتغل العامل لمؤسسته إذا لم يكن مرتاحا؟".

كذلك، فإنّ عدم تهيئة بيئة العمل نفسياً يدفع العامل إلى تعاطي مؤثرات عقلية ومنبهات على مدى ساعات العمل لضمان إنهاء المطلوب منه، ما ينتج عنه في النهاية اضطرابات الطعام والنوم، كما كان يحدث مع ناديا تماماً.

يُنظر إلى المصابين بالاضطرابات النفسية على أنهم غير قادرين على الإنتاج والعمل، إلّا أنّ الحقيقة أنهم غالباً ما يكونون قادرين على ذلك شريطة وجود مراقبة طبية لتجنب زيادة الاضطراب.

إنّ ارتفاع تكاليف العلاج والأدوية على المرضى النفسيين أو المصابين باضطرابات نفسية يجعلهم يعزفون عن التوجه إلى الأطباء وبخاصة مع ابتعاد شركات التأمين عن تغطية هذه النوع من الخدمات الصحية وغيابها كعلاج أساسيّ ومكثف لدى وزارة الصحة والخدمات الطبية التي لا تستطيع تغطية جميع محتاجي هذه الرعاية.

من جانبه، يقول أستاذ علم الاجتماع الدكتور حسين الخزاعي إنّ نظرة الوصم المجتمعية بالجنون للمصابين لأمراض نفسية تجعلهم يعزفون عن مراجعة الأطباء وتلقي العلاج خشية تعامل المجتمع معهم بناءً على ذلك.

ويرى الخزاعي أنّ هذه الخشية من وصمهم بالجنون، تجعلهم غير مندمجين اجتماعياً، وبخاصة في أماكن العمل، لتجنب إظهار اضطراباتهم النفسية، وبخاصة في حال لم يعامل المضطرب نفسياً على أنه شخص طبيعي، ما سيؤدي إلى تفكك الموظفين عن روح العمل الواحد.

رغم أنّ الأصل أن المجتمع عليه أن يتقبل المريض ويشجعه على تلقي العلاج في سبيل التغلب على التحديات الناجمة عن هذا المرض وينعكس في عالم العمل أيضاً. ويؤكد أنه لا بدّ لعدم توفر البيئة الملائمة أن تؤثر على كمية الإنتاج والربح. 

وأوضحت منظمة الصحة العالمية وبناءً على تقييم أجرته عام 2019، أنّ الاقتصاد العالمي يخسر نحو تريليون دولار سنوياً جراء نوبات الاكتئاب التي تصيب العاملين والعاملات في ظل بيئات عمل غير صحية نفسياً.

الحلول:
يكشف أبو العدس أن التشريعات الأردنية، وبخاصة المتعلقة بقطاع العمل، "منقوصة" من الناحية النفسية رغم توقيع معاهدات من أجل حقوق العمال، ومشروع دمج خدمات الصحة النفسية بالصحة الأولية مع منظمة الصحة العالمية في عام 2009-2010 إلا أنها لم تلق أثراً حتى وقتنا الحاضر.

ويشدد على ضرورة تحمل أصحاب العمل واجبهم لتقليل الحمل وإعطاء الأهمية لقضايا العامل الأسرية والأهمية لصحته الجسدية أيضاً، فالأزمات العمالية النفسية سببها الأكبر اضطرابات النوم واضطرابات الطعام وعدم وجود متنفس للعامل أو مراعاة في بيئة العمل.

كذلك، فإنّ ثقافة المجتمع تخشى أن تتحول أدوية الصحة النفسية "إدماناً" وهو تصور مغلوط؛ لكونها تعتمد أولاً وآخراً على طبيعة التزام المريض بتوصية طبية لعدم إساءة استخدامها.

وهي لا تعدو، بتقديره، أن تصل مرحلة "تعود نفسي أو جسدي" على هذه الأدوية، حيث أن الأدوية النفسية تعتبر أدوية آمنة جدا وأكثر أمانا قد تعد من بعض المضادات الحيوية ويجب أن تعطى لأن كلفة عدم تناولها قد تعد كلفة ضياع إنسان. 

ويؤكد أبو العدس أنّه من الضروري النظر إلى الصحة النفسية على أنها علاج أساسيّ يجب أن يؤمن لكل إنسان، وبخاصة في ظل إصابة ربع سكان العالم باضطرابات نفسية مشخصة من قبل أطباء بما فيهم الأردنيون، داعياً توفير الإسعاف النفسي الأولي في المراكز الصحية وأماكن العمل، فالعامل مهيئ للصدمات ونوبات الاكتئاب المفاجئة.

كذلك فإنّ ورشات التوعية والتثقيف بأهمية الصحة النفسية "ستسهم في تخفيض حدة ثقافة العيب من العلاج النفسي واعتماد أصحاب العمل برامج تشجيعية وتحفيزية في سبيل تخفيف الضغط النفسي بما يؤدي إلى ارتفاع نسب الإنجاز والإنتاج".

أما الخزاعي فيؤكد ضرورة أن يتعامل المجتمع مع المريض النفسي بتقبل، وتشجيعه على طلب العلاج والمتابعة ودعمه وتمكينه في المجتمع لكي يستطيع التغلب على التحديات واندماجه في المجتمع ومساعدته على الاعتماد على ذاته وقدراته ويصبح معيل نفسه.

وفق الكتاب المرجعي لمنظمة الصحة العالمية، فإنّ تقديم خدمة الصحة النفسية "واجب" وفقاً للميثاق العالمي لحقوق الإنسان والعهود والمواثيق المنبثقة عنه وليس محض إرادة الحكومات واختيارها ذلك لأنّ حقوق الإنسان متصلة بالصحة النفسية.